<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (قبل اكتمال القرن) ( قرن الخراب العراقي العظيم ) للمبدعة "ذكرى محمد نادر"

 

 

تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

 

 

رواية (قبل اكتمال القرن) ( قرن الخراب العراقي العظيم )

 

 للمبدعة "ذكرى محمد نادر"

 

 

 

د. حسين سرمك حسن

  بغداد المحروسة 2010  

 

# الأسلوب المحتشم :

وهناك ملاحظة أسلوبية هامة ومضافة . فلو لاحقنا الإنتاج الروائي لكثير من الروائيات لوجدنا أنهن يُسهمن - من حيث لا يدرين - في "تسليع" الجسد الأنثوي الذي – أي هذا التسليع يرفضنه أصلا ، من ناحية عرضه بلا مبررات فنّية أحيانا ، ومن ناحية اللغة الطافحة بالمفردات الجنسية .

جاء أسلوب "ذكرى" في هذه الرواية مُحتشما إذا جاز الوصف . كان بإمكانها أن تستخدم أي مفردة حسية ، وأن تقدّم أي مشهد "مكشوف" خصوصا أن هناك مواقف كثيرة جدا في الرواية تتيح لها فرصاً واسعة لهذا الاستخدام . وحتى في المواضع الضرورية التي لا ضرر منها كانت تقفز على المفردة الخادشة المقصودة . خذ عبد الجليل المُحتضر ، وهو يصرخ مستذكرا جلادي قطار الموت :    - أولاد الكلب .. أخوات ( ... ) .. هيه يا سفلة ..   كان بإمكانها أن (تبتز) تعاطف المتلقي عبر اللغة المستفزة جنسيا والمشاهد الفاضحة . هناك طرق فنية عظيمة تتكفل بها مقدرة المبدع وجهده الابتكاري تحقّق تأثيرا أعظم بكثير من التوصيف الحسّي المباشر . لقد شهقتُ ، عندما عرّى "المهلب" "مراثي" ليلة زفافهما وسقط مغشيا عليه لأن فتنة جسدها كانت أكثر مما يتحمل .

  

# تقاويم آلهة الإنتظار :

   والروايةُ من بَعْد ، هي انتصار ساحق للأنوثة .. للأنوثة العراقية المغدورة .. للمرأة العراقية التي هي سر حضارة هذه البلاد .. جوهر كينونتها .. ولغز بقائها العصي على الموت . المرأة العراقية هي بطلة كل العصور . الحضارة العراقية أصلا حضارة أمومية .. حضارة نماء وشعر وأحزان وسلام .. وفي أي وقت تدخل فيه الأشباح الذكورية ساحة هذه الحضارة فإنها تحيلها إلى حضارة موت وخراب وحروب . ليس عبثا أن أوّل إلهٍ تمت عبادته على الأرض - ومنذ فجر الخليقة - كان أنثى وعلى أرض الرافدين . والرواية كلها مُسخَّرة لإلاهة عظيمة صابرة هي المرأة العراقية ممثلة بالأم الشمرية والأم الزنجية الأسيرة وفضائل وسُبل ومراثي .. بل حتى "الباشا" والسلطانة وابنتها القادرية .
من بين أمور كثيرة هامة عرضتها ذكرى في روايتها لتجسيد خصال المرأة العراقية / الأسطورة ، وبصورة عفوية مُحبّبة هي : محنة الإنتظار . وقد قُلتُ في دراسات سابقة إن المرأة العراقية هي ( إلاهة الإنتظار) .. هي – حسب ذكرى محمد نادر – ( إلاهة التقاويم ) . طلعت علينا الكاتبة ببدعة جديدة هي بدعة ( التقاويم ) . ولستُ مجانباً الصواب لو قلتُ إن لكل عراقي ( تقويمه ) الخاص .. تقويم انتظار مديد تحدوه أداة الإستفهام المُركّبة المتينة :

(إلى متى ؟؟) .

كان لسُبل مثلاً ، وقد تأكدت أن جرح حبيبها الغادر في القلب لم يندمل بعد ، تقويما غريبا للنسيان :

( كانت في نهاية كل يوم تضع خطّاً صغيرا مؤشرة : اليوم الأول للنسيان . في كل يوم تذكّر نفسها بموعد نسيانه ، فتوالت الخطوط الصغيرة ثابتةً متسلسلة كدبابيس تخزها علامتها لتذكّر سُبل أن عليها أن تنسى . كانت تسمّيه " دفتر خطوط النسيان " . وفي اليوم ألف وسبعمائة وتسعة وعشرين للنسيان توقّفت عن العد ، وأقفلت دفتي الدفتر على قناعة عدم جدواه . راعها أنها بعد كل هذا النسيان المُتعمّد تتذكره ... في الورقة الألف دوّنت على ورقها المصفر : سأغفر لله لو أنه منحني القدرة على أن أحبّك دون أن أتألم – ص 208 و209 ) .

 

ولمراثي تقويمٌ عجيبٌ آخر هو ( تقويم غرامي ) كما تسمّيه !! . كان هذا التقويم ليس ورقيا كما هو معتاد ، بل "نبتة" شهيرة زرعتها وعمّدتها باسم (تقويم غرامي) . هو عِرقٌ من نبات الياسمين نما ، بعنادٍ ، ليلاحق قصّة حبّها / انتظارها الفرج ، واستجابة حبيبها "المُهلّب" :

( كان "تقويم غرامي" يكبر ، وبعد أن أشرقت  خضرة الورقة السادسة والخمسين من أيام الحب الصعب قالت "مراثي"  - والدمع يتطاير من عينيها - :

-         الله .. تقويم غرامي يكبر – ص 176 ) .

هذا التقويم عادت إليه مراثي بزخم اليأس بعد أن أُسر زوجها "المهلب" في الحرب :

( حتى أنها في ليلة مشحونة بالريبة .. هبّت من رقدتها ، وركضت حافية القدمين ، تلهث قرب تقويمها العطري الأخضر ، فوجدته مُحاطا بضباب ناصع البياض تجمّع بقطرات أشبه بالدموع انسابت على الأوراق المُسنّنة الخُضر . لمّت الأوراق الباكية في كفّها ، وتذوّقت تلك الدموع . كانت مُرّة جدا فحزرت : إنها دموع المرارة . في تلك الليلة الأذارية الدافئة أيقظت أختها سُبل - وهي شبه غائبة عن الوعي - وأعلنت أمامها يغالبها الخوف :

-   إنه المهلب .. لن يعود – ص 218 ) .

واقع القهر والحروب والإذلال والإنتظار العراقي المفتوح على مدى الخيبة اللانهائي والفجيعة قد حوّل تقويم (غرامي) الياسميني الأبيض ، إلى تقويم (دموعي) الأسود .

  

# الإنتظار العظيم :

        الانتصار العظيم . واللغة العربية كارثية في هذا الجانب الاشتقاقي ، فالفارق بين الإنتصار والإنتظار نقطة تقريباً ، مثل الفارق بين "الرفيع" و "الرقيع" ، و "الفرد" و "القرد" . النقطة والحرف في العربية تُحيي وتميت ، وليس الكلمة المُفرَدة حسب . الإنتظار العظيم هو مصير العراق ومستقبل العراقي . العراقي ليس حيواناً اجتماعياً ، أو ناطقا ، أو سياسيا ، بل هو (حيوان ينتظر) . من انتظار إلى انتظار إلى انتظار حد قيام القارعة الصاخة . الانتظار صار ( مهنة ) للعراقي ، وهو أشبه بـ (عمل) له أصوله وقواعده وشروطه . وبطلة هذا الإنتظار هي المرأة العراقية . وإذا كانت حالة وحياة عائلة الرضواني هي خلاصة حياة العراق وتحولات تاريخه ، ليس في هذا القرن فحسب ، بل في كل العصور ، فإن بطلات رواية ( قبل اكتمال القرن ) هن الخلاصة البطولية لكل هذه العصور الغبراء . لا أعلم لماذا تطرق ذاكرتي الآن صورة المرأة العراقية وهي تقف على تنورها لتخبز الخبز . في كثير من البلدان تستخدم المرأة ممسك خشبي تدخل بواسطته العجينة إلى الفرن أو التنور الذي يكون أفقيا . أمهاتنا "يدخلن" في التنور . تشوي النيران أكفهن وتلسع وجوههن وتحرق جباههن الكريمة لتشوي الرغيف . الرغيف العراقي هو خلاصة الأمومة العراقية ؛ فيه انتظار عجيب من حبة القمح ، إلى الطحين ، فالتخمير ، فالشيّ . وفيه كفاح ومصارعة مع ألسنة اللهب من أجل الحُب ، وليس من أجل إشباع غريزة الجوع الفجّة . عندما كنا نتحدث عن الأحوال المُضنية لأخواننا في المنافي كانت أمّي الحكيمة تقول ببساطة :
( من يبتعد عن التنور ، عليه أن يقبل بالصمون !!) .
حتى سُبل ومراثي كن - قبل زواجهن - أمّهات حقيقيات حانيات على إخوتهن ، بل على أبيهن مجروح الكرامة والوجود . وبعد الزواج ، تخصصن بشهادة أعلى وبمهارة أكبر في فن الإنتظار . ولو كان انتظارا مُستكِيْناً في البيت ، لهانت الأمور . لكنه انتظارٌ مُستفزٌ قَلَق كله حركة وضياع ؛ هو انتظار (كراج النهضة) العظيم ، هذا الكراج الذي يحتاج وحده عشرات الروايات والمقالات والبحوث . هذا الكراج شهد خلاصة آلام العراقيين وشدائدهم الفاجعة . وكلّها تلخصها  ذكرى في بحث سُبل ومراثي عن أيّ خيطٍ يوصلهن إلى خبرٍ عن أخيهن "الوضّاح" الذي انقطعت أخباره منذ أن التحق بالقطعات العسكرية في الكويت . أنموذجان : الوضاح والجهم ، شقيقان من عائلة واحدة أشبعتها الدولة وأجهزتها المخابراتية ظلما وبطشا وملاحقة واعتقالا وتحقيقا وقتلا ؛ قتلت الأب مرتضى بعد ملاحقات مدمّرة حتى وهو شيخ طاعن في السن . والمصيبة هو أنه قدّم براءةً كاملة من حزبه معتقدا أن هذا هو الحل الوحيد الذي سيكفل له كهولة آمنة . لكن الاستدعاءات استمرت ، والتحقيقات زادت ، وانتهى الأمر بقتلته المروّعة برصاصة في الرأس نثرت مخّه . صلبت الدولة الصفوان بلا رحمة .. اعتقلت سُبل وأسقطتها في أحضان نوّاف الجلاد . بسبب حرب هذه الدولة تعّرض زوج مراثي وحبيبها للأسر سبع سنوات عاد بعدها طفلاً مُتصدّعاً .. اعتقلت "عامر" وعذّبته إلى الحد أن أخاه غير الشقيق وابن عمه لا يتعرف عليه . وعلى الرغم من كلّ هذه الخسارات الجسيمة يذهب الشقيقان ليقاتلا في الكويت . إن الدرس الأساسي الذي أستقيه من سلوك "ذكرى" الروائي ، هنا ، هو أن هؤلاء البسطاء شبه الأميين هم مادّة العراق عبر عصوره الغبراء ، وسرّ جبروته العاتي ، وليس السياسيين والقائدين والأيديولوجيين عليهم لعنة الله .

لكن هناك وقفة دامية أخرى لا بُدّ منها (كم وقفة دامية يا "ذكرى" ؟!) . فليست تلك الخسارات الجسيمة التي ذكرنا قسما منها إلا النتائج الفاجعة المباشرة . هناك الخسائر الضارية التي توصلك إليها عجلة الطغيان بصورة غير مباشرة . وهي - في الرواية - بالعشرات ، ولكن أعظمها فعلا وأكثرها احتشادا بالمعاني ، هو انتحار "فضائل" الأمّ الذي سأسمّيه "الإنتحار المهيب" .

 

# الإنتحار المهيب :

     والمُصيبة أنّ معدلات الإنتحار لدى العراقيين برغم أنهم يحيون في جهنم الله على الأرض قليلة جدا قياسا بأوروبا مثلا . العراقي مُحبّ للحياة . فكيف وصلتْ – أو أُوصلت ، بدقّة – "فضائل" إلى قرار الإنتحار ؟

عانت "فضائل" سلسلةً من الخسارات منها : تعلّق "عبد الجليل" ، زوجها ، بأختها رغم هجرة الأخيرة . لكن هلوسات الميّت في حضرة ملك الموت الذي هو مُحقّق رهيب هي التي تكشف الهمّ الأساسي الذي يصطرع في أعماق الشخص . وقد تكشف هذا الهمّ عند احتضار عبد الجليل بين يدي زوجته "فضائل" . كان يصرخ مفزوعاً :                                                                   (- إنهم هناك فضائل .. دخيل النبي ليمنعهم أحد .. أسمعهم خلف الحديد السميك .. ص 134)  هل كان سيستحضر تجربة قطار الموت وهو يحتضر لو لم تكن تلاحقه صورها السود طوال حياته ؟ ..
هي السبب الأكبر في إدمانه على الخمرة إدماناً كان يدمر فيه جسده ويقرّب موته . رحل زوج "فضائل" وهي تضم رأسه إلى صدرها وهو يصرخ : سوف يأتون .
تأتي لطمات قاضية أخرى : لقد شهدت كيف فشلت تجربة حب ابنها "عامر" لمراثي . ثم أفشلت بنفسها تجربة حب "الجهم" لابنتها (هانيا) ، التي حاولت تعويض الحبّ الضائع فارتبطت بضابطٍ أحبّها بجنون ، لكن الدولة خرّبت حبهما ، فلم تعطه (الموافقة) على زواجه منها ، لأنها من عائلة (مشبوهة) سياسيا .
أتذكر النكتة السوداء التي تقول إنّ جلّادا دخل أحد السجون وأمر بإطلاق سراح السماسرة (القوّادون) وإعدام السياسيين .. وخرج ، فلحقه أحد السياسيين يتوسل إليه : أستاذ صدقني .. أنا قوّاد !! .
وبفعل الإحباط الفظيع وشعور هانيا باللّاجدوى من (الشرف) الذي تمثله البكارة في مجتمعنا ، لأن لا أحد سيتزوجها في ظل هذه الدولة ، فقد فضّت بكارتها بسبابتها وأمام عيني أمّها "فضائل" . و "فضائل" شقيقة مرتضى شاهدة على مسلسل العذاب الذي عاشه هذا الإنسان المقهور ، وانتهى بتفجير رأسه اغتيالا . , .. و .. و.. وأخيرا جاءت القشة .. أي قشة هذه التي تقصم ظهر الجمل ؟! ما هذا السخف ؟! جاء عمود رخام روماني .. قطعة جلمود تهاوت من أعلى جبال العراق . لقد اعتُقل ولدها "عامر" عندما جاء في محاولة انتحارية للإعتذار من "مراثي" التي هجرها لأن حزبه حطّم حياته . إعتُقل ، واقتيد إلى الأقبية السرية حيث عُذّب بوحشية جعلته كائنا آخر لم يتعرف إليه "السجّاد" وقت ألقى القبض عليه بعد هروبه . في هذه اللحظة شعرت "فضائل" أن الحياة لم تعد تستحق أن تُعاش ، وقررت الإنتحار في موقف مهيب سيبقى من عيون المواقف السردية العراقية والعربية والعالمية . ولندع "ذكرى" تصفه لنا مؤثثة مكان هذا الحدث الجلل في الحديقة رمز النماء والتجدد ، ومُصمّمةً الزمان في نيسان شهر الإنبعاث والتجدّد السومري :   

( كان نيسان يلعب في حوش الدار لعبته الخضراء القصيرة مشبعا الأنفاس بأريج القداح . وُجدت "فضائل" كتمثالٍ برونزي نبَتْ فجأة في الحديقة . جمعت في الفجر كل أوراقها ورسائل "الوضاءة" المنفية باختيارها على شرفات الثلج ، وشهادات ميلاد ابنها وبناتها الخمس . لمّتْ ثيابها وصورة زفافها ، ولم تنس وجه "الوضاءة" الوحيد في صورتها المتروكة بعد سفرها . وضعتْ كل كنوزها في حجرها ، وأشعلت النار بها . بيأسٍ كاملٍ كانت تراقب حجرها العامر بالنار والذكريات وهو يشتعل . تشم رائحة شواء جسدها مشدوهة الإحساس . تسلّقت ثمار النار إضمامة الشَعَر البيضاء الكبيرة على رأسها دون أن تترك مكانها ، ولم تسمح لصوتها أن ينطلق . جلست بصبرها المروّض بسنوات الألم تشهد خسارتها النهائية بعد أن تحطّمت صور أحلامها . وُجدت متربعة على البلاط تفتح عينيها وقد جفت نظراتها . ظلت سُحابة دخانٍ زيتي من أثر حريق جسد "فضائل" معلقة لسبعة أيام متوالية بحدادٍ مستمر فوق سطح الدار ، تنفض سُخامها الأسود فوق النخلتين مُعلقةً خيمة حزنها على مشارف نهاية السعف المديد . سحابةٌ سوداءَ تتأرجح بريحٍ خفيفة يصدر عنها صوتٌ يشبه الأنين – ص 196 و197 ) .

ثم لاحظ الإنتقالة الزمنية الموفقة التي تقوم بها الروائية مُستثمرة حلقة اتصال كانت معنوية ( سحابة جسد "فضائل" المحترق السوداء ) تحوّلت إلى حلقة مادية ممثلة بغيوم الخراب السود التي عمّت سماوات العراق مع نهاية حرب عام 1991 :

( سحابة سوداء تتأرجح .. تذكّرتها "مراثي" في آخر أيام حرب التسعينات من هذا القرن ، عندما غطّت البلاد غيوم سحاب ثقيل أسود لزج رقد فوق الأسيجة ، وسقط ببقعٍ لا تزول على الثياب المنشورة على حبال الغسيل . أُشيع وقتها أنها سحابة القتلى المحروقين على امتداد البراري القصيّة حيث لم تتمكن خيول المطر بكل سنابكها التي دكت البيوت والأرصفة والشوارع والرمال أن تغسل الأثر المتبقي من الأجساد المحترقة بقنابل تسعينات القرن – ص 197 ) .

بعد انتحار الأمّ ، جُنّت ابنتها ، وكانت تدور هاذية :

(ماما .. إنها الموافقة .. دعينا نتزوج) .

وهذه أيضا خسارة غير مباشرة لسلوك الطغيان ( هل أقول مباشرة ؟) . ورغم أن عائلة الرضواني كانت ضحية القبضة الباطشة للدولة العراقية بمختلف مراحلها .. وللصراعات الحزبية والسياسية .. حدّ أن نسيج العائلة قد مُزق شرّ ممزق ، إلّا أن أبناءها خاضوا كل حروب تلك الدولة .. توّجها أنموذجان عظيمان في آخر حروب القرن – حسب الرواية – وهي حرب التسعينات ، هما : الجهم والوضّاح . الجهم تعرّض للإعتقال والتعذيب ، ثم أغتيل أبوه في البيت .. إلخ كما قلنا ، لكنه عندما بدأت الحرب الأمريكية على العراق تحوّل إلى سلوك غريب . صار يتصرّف وكأنه (قائد عسكري) فِعْلي . امتلأت غرفته بالخرائط العسكرية التي يحدّد عليها مواقع قواتنا ومواقع قوات العدو ، ويحدد اتجاهات الهجوم وسبل التعبئة وطرق المباغتة . كان مهووسا بالأطروحة التي خدرتنا طويلا كعسكريين وكشعب آنذاك ، وهي أن القوات الجوية لن تستطيع حسم الحرب ، وأن الحسم سيكون على الأرض وذلك في الإشتباك البري المرتقب .

لكن كيف تنتقل ذكرى إلى سلوك الجهم هذا ؟

إنها تنتقل إليه عبر تداعيات حربية من مسيرة أخيه "الوليد" الذي فقد ساقه في الحرب العراقية الإيرانية دون أن تسمّيها مباشرة . وهي حرب تعبت فيها حتى البغال واشمأزت وانتحرت . كما فعل البغل (محجوب) الذي كان يرعاه "الوليد" . فقد ألقى بنفسه في لحظة عصيان ورفض للتعب والأوامر من أعلى الجبل ، لأنه لم يكن قادرا على تحمل عناء أكبر (ص 236) . وهناك قصة قصيرة رائعة للقاص (هيثم محسن الجاسم) اسمها (المأزق) نشرت في جريدة القادسية في التسعينات وتناولتها في كتابي ( قطار الشظايا الندية ) الصادر عام 2000 ، وتتحدث عن موضوع مماثل حيث يحاول مقاتلان إقناع بَغْلٍ بضرورة الصعود إلى قمة الجبل لتوصيل الأرزاق إلى رفاقهم ، لكنه يرفض ، ثم يرمي نفسه إلى الوادي السحيق منتحرا . يتعب البغل والمقاتل العراقي لا يتعب . ولهذا وقف "الوليد" يُحيّي رفاقه الجنود قائلا بين الجد والتهكم ، بعد هجمات معادية متلاحقة استمرت لأربعة أيام :

(- يا شباب ، لقد تفوقتم بصبركم على بَغْلي العزيز "محجوب" . إنكم بحق أثبتم بأنكم أشد عنادا من البغل . يا بِغالي العنيدة إنكم لم تتركوا الأرض . لم تخذلوها – ص 238 و239) . ومن هذه الوقفة التي استدعاها "الوليد" ، بعد أن عرض عليه "الجهم" المهووس أن يعيّنه مستشارا حربيا له !! تتحول الكاتبة لتعرض علينا موقف "الجهم" :

( كان "الجهم" يزداد استثارة وغضبا كل يوم من أيام القصف الأربعيني ، فينطلق كقائدٍ عسكري معزول في جولات تستغرق سَحابة النهار متفقّداً ما يمكنه بلوغه من أماكن متضررة وحين يعود كان يردد دائما :

(- كلّ هذا لا يهمّ . ليستمر القصف ما شاء لهم . لن يحسم الجو المعركة . 

  ويضرب الأرض تحت قدمه : 

 - هذه هي التي تحدّد من هو المنتصر .    

( ..... ) في الشارع الخلفي لبيتهم بدأت ضجة غير معهودة :

- إنهم ينسحبون ..

خرج "الجهم" راكضا . في الهزيع الأخير من الليل عاد منهوك القوى ، حاملاً لمشعلٍ جديد اتقد من حماسة أفكاره :

-         إنّه فخٌ تكتيكي .. مصيدة .. مصيدة نعدّها للمغفلين . يجب استدراجهم ..

ونام متكوّراً كطفلٍ خائف . بعد أن يئس من انتظار أفخاخ المغفّلين ، ومن المصائد المُعدّة ، ومع عودة طلائع الراجعين ترك كلماته ومضى – ص 238 و239 ) .                                          يبقى النموذج الآخر المُكمّل الذي التحق بالقطعات العسكرية وهو بكامل قواه العقلية . إنه "الوضّاح" الأصغر الذي يحبّه الجميع حبّاً جمّاً خصوصا أختاه : سُبل ومراثي . لقد انقطعتْ به السبل وضاعت أخباره نهائيا ، وصارت الأختان تواظبان - بمثابارة - على الذهاب يوميا إلى سُرّة خراب العراق ومجمع بَحَرّي عذاباته : كراج النهضة ، تحملان صورة اخيهما "الوضاح" ، تعرضانها على الجنود المُنسحبين بصورة مُزرية لعلّهم يتعرّفون عليه . وضمن تفاصيل هذه المسيرة اليومية المُضنية تعرض لنا الكاتبة صور الإنسحاب المهينة : كيف كان الجنود والضباط يلقون أسلحتهم ، ويركضون بكل قواهم ، ليخلصوا ، فتحصدهم صواريخ الطائرات المعادية وتنثر اشلاءهم في كل اتجاه .. كيف دُمّرت طرق التموين وضلوا أيّاماً طويلة يلوكون الرمل ويبتلعون الدخان .. كيف كانت عربات الماء تصير مصيدة للجنود الزاحفين نحوها عطشاً فتتناثر جثثهم حولها بالعشرات (يبدو أن الموت عطشا من المسلمات في العراق بعد أن ارتبطت بالحسين الشهيد) .

كان الكراج والساحات والشوارع المحيطة به تختنق بشواهد الإنذلال والتمزّق .. جنود ملطخون بالوحل والدمع والدم والفجيعة . كان بعضهم حفاة شبه عراة . كانت أجسادهم منهكة مطروحة كيفما اتفق تحت المطر ، أو تحت كابينات المحلات المُقفلة وفي داخل العربات اليدوية أو على متونها . وبعد أيام مُهلكة من المثابرة العزوم ؛ من الانتظار الحارق ، دَخَلتا مقهى بائسا مختنقا بالجنود المُنهكين ، وعَرَضَتا صورة أخيهما المفقود ، فتعرف عليه أحدُ الجنود المحطمين عارضا بطولات "الوضاح" الجنونية : كيف كان يقوم بافعالٍ انتحارية كأن يذهب ليجلب الماء زاحفا لمسافات طويلة حتى أن آمر اللواء لم يصدّق عندما رجع "الوضاح" ، فبكى ، وقبّله ، وصفعه :

(- إلّا أنتَ يا "وضاح" .. لن تموت وتتركنا .. شكّك بعض الجنود بكلام الجندي فأشهد رفاقه الآخرين من اللواء 25 .. ولكن جنديّاً آخر ليس منهم حسم الأمر و ( مسح أنفه بكمّ قميصه الملوّث . إنه مجنون وضّاحكم هذا . أنا أحسده . أظنّه بقى هناك . شدّني من قميصي . هكذا . وجمع كفه فوق قميصه فانقطعت أزراره . قال لي :

- لا ترجع .. أنظروا إنهم هناك أمامنا ، لنقتلهم .                                                                كان يعدو صارخا في كل الاتجاهات : إلى الأمام .. إلى الأمام . كانت ثيابه ملطخة بالدماء . كان يشير بكلتا يديه نحو الأمام . يحفر في خندق ردمته الدبابات على جنوده الأحياء . ظلّ ينقل التراب بالخوذة .. ويسكب الماء في الثقوب لعلهم يشربون . قلت لنفسي قد جُنّ والله . يقول :        - إشربوا أصحابي ، سأصل إليكم .                                                                            هبّ صوت سُبل واهناً مخذول الأمل :     - إذن تركته هناك .   

    – تركته . أبصقوا في وجهي . إني أحسد الموتى . أحسدهم – ص 246و247 ) .

وقفة :

---------

اذا كان "الجهم" و "الوضاح" متصدعي العقل يقاتلان في حربٍ برغم انهما من عائلة ذاقت اعظم المرارات من الدولة القائمة ، فما الذي حصل لعقل الشهيد "قاسم عبد الامير عجام" الشيوعي الذي ذاق عذابات السجون والملاحقات والعسف انسانيا ومهنيا بالرغم من تفوّقه في عمله . ما الذي حصل لعقله ؟ هذا ما نلمسه من مذكراته التي سطّرها بقلمه . كان يصرخ كالمسعور وهو يرى الدبابات الأمريكية تجوب مدينته الصغيرة (ناحية المشروع التابعة لمحافظة بابل) .. أمسك به أولاده وأدخلوه عنوة إلى البيت وهو يحاول الهجوم بيديه العاريتين الكريمتين على الدبابات . وعندما دخل البيت بدأ يضرب رأسه بالحائط ..

 

الخاتمة : عودة إلى الإنتظار العظيم :

عادت سُبل ومراثي مُحطمّتين نفسيّاً بعد أن سمعا الجنديين يرويان ما كان يقوم به "الوضاح" أخوهما . لكنّهما مختصتان بالفن العشتاري الأول : الإنتظار العظيم الذي تختم به الروائية الكبيرة "ذكرى محمد نادر" روايتها العظيمة هذه :

( كان الليل المتربص بالعاصمة كثيف السواد ، تسلّقت سماءه كتلُ غيومٍ تشابكتْ كأنها العناقيد المُترعة ، وثمة ريح رطبة دافئة تنبيء بمطرٍ جديد وشيك . من الشرفة العريضة المحدقة بالنهر ، أرسلت "مراثي" بصرها فوق حدود العاصمة المظلمة . ارتجّت بعض الأغصان بقطرات مطر انزلقت بصوت خافت على البلاط البارد . أشعلتْ سراجاً وتسلّقت أعلى العمود الخشب ، وتركتْ السِراج معلقا على مسمارٍ كبير تعبثُ الريحُ بذبالة النار النحيلة المُهتزة تحت الزجاج ، فبدا في بحر الظلام الرطب كأنه إشارة بائسة لبحّارٍ منسي على شاطيء وحيد . همست لنفسها :
- قد يأتي أحد .

من خلفها جاء صوت سُبل :

- أتظنين أن أحدا ما سيأتي ؟ أهناك قادم ؟

كانت عينا مراثي أشدّ حزنا من ذي قبل ، ونديّتَين جدا . عبرتْ بنظراتها خلف حدود النهر والعاصفة المؤطرة بوميض احتراقات بعيدة لم يطفئها المطر بعد :

-ربما يأتي أحد ..

وأحسّت بكفّ سُبل دافئة جدا فوق كتفها – الصفحة الأخيرة 247 ) .

هكذا ستبقى ذُبالة السِراج العراقية .. سِراج عُصبة الانتظار .. عُصبة سُبل ومراثي ، وانتبه –أخي القارىء -  لاتحاد معنيي الإسمَين اللذين يرسمان التلويحة الاخيرة للبحّارة العراقيين المَنسِيين ، دائما وأبداً ، على شاطيء الوحدة والوحشة . ستبقى مُتّقِدةً ذبالةُ سِراجِ الإنتظار العراقي العظيم ، مُتقدة بزيت الأرواح المكلومة ، فهي خلاصة عذابات البشرية ..         

   فتحية لسُبل ومراثي ..       

 لفضائل والبلورية والقادرية وهانيا .. والشمرية والزنجية .. 
وللسلطانة والباشا ..                                                 
للصفوان ومرتضى وعبد الجليل .. والرضواني الكبير ..        للأعمى الشاهد ..      

 لتغلب والجهم وعامر والوليد والوضّاح ..    

 والتحية الساخنة من قبل وآيات الشكر الوافر لصانعتهم الأمهر المبدعة العراقية الكبيرة : "ذكرى محمد نادر"  .

 

23.05.2015

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

23.05.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org