<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن علي الوردي : (20) القوقعة البشريّة ودورها في إرباك الأحكام العقلية

 

 

علي الوردي : (20)

 

القوقعة البشريّة ودورها في إرباك الأحكام العقلية

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

# مصطلح "القوقعة البشرية" :

-----------------------------

يخصص الدكتور علي الوردي الفصل السادس من كتابه "مهزلة العقل البشري" لتناول موضوعة ( القوقعة البشرية ) ، وهو مصطلح يجترحه كمرادف لمصطلح ( الإطار الفكري ) الذي يحيط بعقل الفرد ووجوده ويحدد مسارات إدراكه وأحكامه . وهذه القوقعة تكون في أوج قوتها في سنوات الطفولة الباكرة . وكلما كبر الإنسان وزادت تجاربه ضعفت فيه هذه ( النظرة القوقعية )، ولكنها لا تموت أبدا . ويصعب على الإنسان التخلّص من قوقعته مهما حاول ، فهي تكتنفه بصورة لاشعورية ، وتخلق نوعا من ( الغربال اللاشعوري ) يغربل الأقوال التي تُقال عن شخص فلا يدعها تصل إليه على حقيقتها . ويتساوى في هذه القوقعة في النوع العامة والمثقفون ورجال الدين ورجال السياسة والزعماء والفلاسفة ، ولكنهم يختلفون من ناحية درجتها . فـ :

(( الظاهر أن الفلاسفة لا يختلفون عن العامّة في هذا . مزية الفلاسفة أنهم يتكلمون فلا يرد أحدٌ عليهم مخافة أن يتهمه الناس بالغباوة أو الغفلة أو الجهل . ولهذا ملأ الفلاسفة القدماء كتبهم بالسخافات وصدّق بها الناس . ولو جمعنا الفلاسفة في صعيد واحد وقلنا لهم اتفقوا على رأي صحيح نصلح به الناس ، لتجادلوا وتخاصموا .. ولظن كلٌّ منهم أنه أتى بالرأي الصواب ) (143) .

والوردي يرى أن هذه القوقعة يمكن أن تدفع إلى التنازع المفيد مثلما يمكنها أن توصل المجتمع إلى التنازع الضار ، والأخير يشيع في مجتمعنا بسبب طبيعة القيم الاجتماعية التي تشكل نظرتنا القوقعية في العراق :

(( فنحن لانزال متأثرين بقيم البداوة . ومعنى هذا أننا بدو بلباس الحضر .... ومشكلتنا اليوم أننا نتمشدق بأفكار الحضارة ثم نجري في حياتنا العملية على عادات البدو ... إن المتمدنين يتكالبون كما نتكالب . ولكن تكالبهم يتجه في معظم أمره نحو ناحية الإنتاج الفكري أو المادي ، إذ يريد أحدهم أن يبرهن به أنه أولى من غيره بالمكانة . أما نحن فنتكالب في سبيل " التَمَشْيُخ " ويودّ أحدنا أن يكون نهّاباً وهّاباً بدلا من أن يكون منتجا أو مبدعا . ولهذا صار كثير منا ينهبون المال لكي يقيموا به الولائم والحفلات أو يشيدوا به القصور التي تزيد عن حاجتهم عشرات المرات. وحين يفعلون ذلك يقدّرهم الناس ولسان حالهم يقول : جيبْ نقِش وكُلْ عوافي )) (144) .

وكما حصل في الفصل السابق الذي عاد فيه الوردي إلى مناقشة موضوعة الإطار الفكري ، يعود في هذا الفصل – السابع – إلى مناقشة موضوعة ( التنازع والتعاون ) ، فمن السمات الأسلوبية لخطاب الوردي هو " التكرار " كما سنتناوله في موضعه عند دراسة أسلوب الوردي . يستهل الفصل بإحالة إلى مقدمة كتاب "العاني" السابق الذي هاجم به كتاب وعاظ السلاطين ، والتي تُصوّر مجتمعا طوبائيا على غرار مدينة الفارابي الفاضلة ؛ مجتمع بلا صراع ولا نزاعات ، في الوقت الذي يرى الوردي أن هذه أفكار عالية ، لكنها عقيمة ، لأن التنازع والتنافس والتحاسد هي صفات لازمة في الإنسان ولا خلاص منها .

ويشير الوردي إلى أن (أرسطو) قد أخطأ حين اعتبر ( الإنسان مدني بالطبع ) لأن الإنسان – حسب الوردي – ( وحشي بالطبع ومدني بالتطبع ) . ويقدم ملاحظة مهمة تشير إلى أن مفكرا واحدا من بين المفكرين القدماء استطاع أن يشذ عن دراسة المجتمعات الطوبائية المتعالية ويتجه إلى دراسة الواقع الفعلي ، وهو "ابن خُلدون" الذي اعتبر التنازع مصدر تطور المجتمع حين قال في " مقدمته "  :

( إن التنازع عنصر أساسي من عناصر الطبيعة البشرية . فكل إنسان يحب الرئاسة وهو لا يتردد عن التنازع والتنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك ) وهذا الرأي أصبح محورا لكثير من نظريات علم الاجتماع الحديثة . فالتنازع والتعاون هما دعامتا الاجتماع البشري ، فهما يخلقان ما يصطلح عليه الوردي بـ "التدافع الاجتماعي" الذي إذا خلا منه أي مجتمع فإن مصيره سيكون الركود والانحطاط ، في حين يشكل وجوده حافزا للإنسان نحو العمل المثمر والإبداع . ويضرب الوردي مثلا على ذلك بالمجتمع الهاديء الذي حاولت تشكيله مجموعة من الطوبائيين في أمريكا ، وتركه الفيلسوف ( وليم جيمس ) بعد بضعة أيام قائلا : "أنا سعيد حين أخرج إلى عالم فيه شيء من الشر" .

وحتى الجنة – كما يعتقد الوردي – ستكون مكانا مضجرا ، بل أشقى مكان في الكون ، لأن الحياة فيها ستكون رتيبة ولأن الطبيعة البشرية لا تستسيغ " السُرُر المتقابلة " والسعادة الرتيبة وتشتهي التنازع .

# النبي (ص) أيّد التنازع الإجتماعي مثلما أيّد الوحدة :

----------------------------------------------------

ويدعو الوردي إلى قراءة جديدة للأحاديث النبوية التي تؤكد على التنازع مثلما تؤكد على التعاون وعدم الفرقة . فالنبي يقول :

" يد الله مع الجماعة " و " الجماعة رحمة والفرقة عذاب " ، ولكنه يقول أيضا : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " و " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " و " طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوءٍ من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " و " اختلاف أمتي رحمة " .

أي أن النبي أخذ الحقيقة الاجتماعية من وجهيها :  وجه التعاون والوحدة ، ووجه التنازع والفرقة ، ولذلك سنّ سُنّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن رجال الدين من أتباع السلاطين أخذوا القسم الأول من أحاديث الرسول التي تأمر بطاعة الجماعة ، لأن طاعة الجماعة عندهم معناها طاعة السلطان. ويضرب الوردي مثلا على ذلك من كتاب الأستاذ "عبد المنعم الكاظمي": (من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه) الذي كتبه ردا على كتاب وعّاظ السلاطين. ويضرب الوردي مثلا على ذلك بثورة "زيد بن علي" وموقف "أبي حنيفة" الداعم لها ، حيث كان الأخير يرى وجوب الخروج على السلطان الجائر ، لكن أتباع أبي حنيفة اللاحقين تراجعوا عن هذا الموقف عندما تحولوا إلى وعّاظ سلاطين . حتى أن واحدا من هؤلاء الوعّاظ وهو (ابن العربي) قال عن الحسين "ع" (إنه قُتل بسيف جده ) :

(( ومعنى ذلك أن الحسين قتل بسيف الإسلام لأنه في نظر ابن العربي خرج عن دين الإسلام حين خرج على إمام زمانه يزيد بن معاوية )) (145) .

ويدعو الوردي إلى قراءة جديدة لنصوص القرآن الكريم التي تؤكّد على أهمية التنازع : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( سورة البقرة – الآية 251 ) ، وعلى أن " المحافظين " من المترفين يقاومون الدعوات الجديدة دائما : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها أنا بما أرسلتم به كفرون ) ( سورة سبأ – الآية 34 ) وغيرها .

وفي انتباهة هامة يقول الوردي :

(( وهناك آية ذات مغزى اجتماعي هام من هذه الناحية . ففيها يقول القرآن : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) ( سورة الإسراء - الآية 16 ) .

وقد حار بعض المفسرين في تفسير هذه الآية، فلم يستطيعوا أن يفهموا كيف يُهلك الله أهل القرية كلهم بجريرة المُترفين منهم . والواقع أن هذه الآية واضحة في دلالتها الاجتماعية ، ولا داعي للحيرة في تفسيرها . فالناس إذا سكتوا عن جرائم المُترفين ، وخضعوا لأمرهم ، واتحدوا على طاعتهم ، أصبحوا مستحقين للعقاب مثلهم . وهنا نجد القرآن يخالف وعّاظ السلاطين فيما ذهبوا إليه من وجوب الطاعة للسلطان ولو كان ظالما . فطاعة الظالم هي بذاتها ظلم وهي تستحق العقاب مثله ، وقد قال النبي محمد : (( إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له بأنك ظالم فقد تودع منها )) (146) .

ويعلق الوردي على ذلك في ختام الفصل بالقول :

(( خلاصة الأمر: إن من خصائص كل دعوة إصلاحية جديدة هو أنها تفرّق الجماعة . ذلك لأن المترفين يقفون لها بالمرصاد ويقاومونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . وإذا رأيت دعوة " رنّانة " تدعوا إلى وحدة الجماعة فاعلم أنها سوف لا تحرّك ساكنا ولا تُوقظ نائما .. والأمر لله الواحد القهار )) (147) .

 

 

 

 

 

 

06.04.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

06.04.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org