<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن محبرة الخليقة (25) تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

 

محبرة الخليقة (25)

 

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

      بغداد المحروسة

      2012 – 2013

 

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

هكذا أوصل هذا الإنهواس بالخصب ، وسلب حقوقه المؤصّلة من الأنثى الخالقة ، والمتأسس على حسد الذكر لها ، إلى الخفّة في النظر إلى تحوّلات الحياة وتسطيح قوانينها ، وإلى الإستخفاف بدور الرحم الأمومي ونكران عطاياه . فما هي قيمة هذا الرحم وما الداعي لاحترامه وعبادته . وما هي الفكرة وراء آلام المخاض ومصاعب الولادة إذا كان الرجل يمتلك "كيساً" في جنبه – وفي أسطورة أخرى – في ساقه !- يستطيع حمل "جنينه" فيه ؟ وتكون الولادة بـ "الإستلال" أي استخراجه بطريقة تشبه استلال السيف من غمده ، وليس بالعناء الأنثوي الطبيعي المضني ؟ ولو رجعنا إلى شكل القصّة الأصلية التي نقل عنها جوزف الفكرة الأساسية شعراً لوجدنا فيها الكثير من معاني وتحريفات وتحاسدات ، فقد كانت سيميلي زوجة للملك قدموس ملك طيبة ، التي يأتيها زيوس في هيئة بشرية ويضاجعها خفية عن زوجها ، فتحمل منه بالإله ديونيسوس ، وتستمر علاقتهما إلى أن يبلغ الجنين في بطنها الشهر السادس . عندها تعرف زوجة زيوس الغيور هيرا بالأمر ، فتأتي إلى سيميلي في هيئة جارة عجوز وتنصحها بأن تطلب من زيوس أن يظهر أمامها في هيئته الحقيقية .. تتمنع سيميلي على زيوس فيتجلى لها وتحرقها صواعقه وتهبط إلى العالم الأسفل ! ولكن زيوس يفلح في إنقاذ الجنين من أحشائها بمعونة الإله هرمز ، ويقوم بشقّ ساقه ووضع الجنين فيه ليتم فترة حمله . وفي الشهر التاسع يفتح ساقه ، ويستولد منه ديونيسوس الذي يرتقي وهو طفل عرش أبيه ويلعب بصواعقه بيديه الصغيرتين مقلّداً كبير الآلهة ! (50) .

وبالإضافة إلى ما قلناه ستلاحظ انقلاباً مضافاً هائلاً ، فبدلاً من أن تكون الأم هي الإلهة المنقذة كما اعتدنا ذلك في الحضارة الأمومية ، وهي التي تنزل إلى العالم الاسفل وتنقذ إبنها الإله البكّاء ، نجدها هنا هي التي تموت وتهبط إلى العالم الأسفل ويقوم الإبن – لاحقاً – بإحيائها بعد أن يؤسس ديانته التي سوف يُصبح فيها هو مركز الكون والحياة وممثل قوى الخصب والأرض والخضرة .. ويصبح قضيبه الرمز المعبود حتى للنساء :

( كان

   باخسْ

   زارعَ الكرمِ ، إلهَ الخمرِ ، ذا صوفيّةٍ

 في السكرِ ،

  مخموراً ،

  وهتّاكاً ،

   له معرفةٌ في كلّ أسرارِ نساء

 الأرضِ ،

 من زينتهِ العنقودُ ،

من تيجانه اللبلابُ ،

رمزاً لانتصار الأبِ ، والعضوِ الذكوريَّ

 الذي قد كُتبتْ فيه الأناشيدُ ، أحاطتهُ طقوسُ الخصبِ

 والعشّاقِ . هدّتْ معبدَ الفرجِ يدُ المرأةِ ، صارتْ

 للقضيبِ الصلواتُ الآن تعلو ،

     للقضيبِ النارُ

    توقدْ .

  إنّهُ الربُّ الذي صار لهُ

            في الأرضِ

                              معبدْ . – ص 488 و489) .

وهكذا استولى القضيب على عرش الرحم ، وحلت طقوس عبادته والإحتفاء به في أعياد الإنبعاث وفي المعابد وفي الطقوس السنويّة ومنها احتفالات الربيع وأبرزها احتفالات "الطوّافون المقدّسون بالقضيب" الذي تنهوس فيه النساء ويتهتكن وهنّ ينشدن مغيّباتٍ للعضو الذكوري ، وقد نسين فضائل أجسادهن المباركة تماماً . بدأت الأعضاء الذكورية تُجسّم بأحجام خرافية يصل طولها إلى خمسين متراً ووزنها إلى عشرة أطنان . صارت تُعلّق على عتبات البيوت تسجد لها العذارى وتتوّجه النسوة بشقائق النعمان ! (راجع نصّ "جمرة الليل" – ص 491 – 494.. ونصّ "روما في زينتها" – ص 495 – 497.. ونصّ "النُصُب" – ص 498 – 501.. ونصّ "عضو هرمس" – ص 505 - 507) .

لكن كلّ هذه التضخيمات السلوكية ، وطقوس التبجيل المبالغ بها حدّ الإفراط كمّاً ونوعاً ، لم تستطع ملء ثغرة الإحساس بالنقص في لاشعور الذكر ، وظلّت كل مظاهر الطاقات الإخصابية المنتزعة مجرّد مظاهر اصطناعية ملتصقة بوجود الذكر ، فوظيفة الخصب أصيلة في الدور الوجودي للأنثى ، في حين أنها مصطنعة بالنسبة للرجل . الرجّل مخصّب نظرّياً ، والمرأة مخصبة عملياً .

لكن الذكر لم يتوقف عند حدّ سلب حقوق الخصوبة من الأنثى التي هي امتيازاتها بطبيعتها ، بل بدأ – والحسد يأكل قلبه لأن المرأة استمرت بوظائفها القديمة بجواره وأمام عينيه يستفزه دورها الخالق كلّ لحظة – بإسقاط مكبوتاته وآثامه وحقده على إمكاناتها عليها ، فجعلها كبش فداء يلقي عليه – ويا للعجب -  مسؤولية الجفاف والمحل وموجات القحل ، وصوّرها مسؤولة عن العقم وكل مصائب الطبيعة . فهي التي يجب أن تُعاقب على الكوارث . وهي مجرّد أداة وليست أكثر من عميل للإنتاج ، ولسوف يتوجّب حبسها لمراقبتها بشكل أفضل ، وأنّ العذريّة التي اعتبرت في عصور الحضارة الأمومية ، عصور الخصوبة الطبيعية العفوية ، كعقبة ، سوف تصبح قيمة ، وتعني الضمانة والغنيمة . وفي الوقت الذي كان المفضّل في العصور الأمومية الزواج من فتاة أمّ كضمان مؤكّد للخصوبة :

(     يا

          منْ

        يفضُّ بكارتي .

     ما من عريسٍ سوف يقبلُ بي

      إذا ما كنتُ ليلتها

        امرأهْ (...)

        ألستَ مشتاقاً إلى جسدٍ تلذُّ

     أنينهُ يا

               عازفَ الناياتِ ؟

        لنْ

           أغدو عروساً .

              أنقذوني

            من مرارةِ عزلتي

     بين النساءِ . فإنني

      ملكُ القبيلةِ .

      ليس من أحدٍ

        يحلُّ له دمي فيها . – ص 515 – 517) (نصّ "البكارة") .

... صار الرجال في العصور الذكورية يراقبون بناتهم ، ويضعون القيود لضبط سلوكهن ، فأي بادرة تفتّح أو نأمة انطلاق هي علامة منذرة بخطر جسيم ، افظع اشكاله فقدان البكارة . صارت عذريّة الفتاة وسواساً جديداً متسلّطاً على الذكور ، وصار على العريس أن يعرض دم بكارة زوجته ملطخا على قماشة بيضاء يدور بها على الأحبّة الشهود الحاقدين المترصّدين :
(    يضاجعها

   كمنْ يمضي إلى بلدٍ بجيشٍ

  من فحولتهِ .

       عروسٌ

      كي يؤكّد للقبيلةِ أنها

             عذراءْ (...)

         يمرّ على نزيفِ دمائها

المُنسابِ فيهِ منيّهُ

                  بقماشةٍ بيضاءْ ،

                  ويمسحهُ فتغدو

                  قطعةً حمراءْ ،

                  وطعمُ دمائها

                           مالحْ

                  ويخرجُ في الصباحِ إلى قبيلتهِ ،

                  ليرفعَ رايةَ الفاتحْ . – ص 502 و503) (نصّ "الفاتح") .

وحين ينطلق موضوع الجور على المرأة من "داخل" ذات الشاعر ، يُصاغ موضوع وسواس العذرية بصورة مؤثرة ومؤلمة . في قصيدة "بيع" تخاطب الفتاة المحاصرة برقابة العذرية حبيبها وتنذره بأن لا يقترب منها لأنها ستذوب بين يديه أناتٍ وآهاتٍ وحرقة ، وسوفوف تشتعل في روحها ألسنة الرغبة فتغيّب وعيها ، وتصرخ طالبة منه فضّ هذا الحاجز ، فتفقد بكارتها ويذبحها الرجال المنسعرون بقيم الشرف المنافقة :

(      لا

                 تقتربْ .

                 بالرغمِ من أني اكادُ أجنّ لكي أراكَ ،

    فكيفَ إن عانقتني ؟! سأغيبُ عن جسدي إذا

    شفتاكَ أدخلتا سلالمَ قامتي في الآهِ

                               والأنّاتِ ،

                               إنّي

                               بعدُ بِكرٌ ،

                                             إنْ تمرّ بإصبعٍ في

    الخصرِ أغرقُ في ندائي :

                               فضّ هذا السرّ بي .

                               ولأتّهمْ بالعُهرِ ، ولأُذبحْ على

              حجر

                               الطريقْ ، - ص 519 و520) .

ويبدو أن إحساس الأنثى بروحها الخصبي هو إحساس مكين وكأنّه قد ترسّخ عبر آلاف السنين في شفرات جيناتها فكراً وسلوكاً ، فنرى الفتاة تتصوّر نفسها وقد صارت بعد ذبحها "ساقيةً عليها حورةٌ" . لكن هذه الأحاسيس المحيية لم يعد لها وجود ولا قداسة في عالم الرجال .. يجب عليها أن تنذر حبيبها بأن لا يقترب وأن تبقى عذراء كي يشتريها السيّد الجديد :

(                              لا

                               تقتربْ .

                               أصبحتُ ملكاً للذي سيكونُ سيّد

                 منزلي . بالأمسِ

                                    مرّ ببيتنا ،

                               أعجبتُهُ

                               لمّا رآنيْ .

                                ولأنني ما زلتُ عذراءَ

                                              اشترانيْ . – ص 520 و521) .

لقد اصبحت المرأة شيئاً هزيلاً جداً ، وصار الشعور السائد هو أن النساء إذا لم يكنّ محروسات ، فإنهنّ يجلبن الشقاء لعائلتين ؛ عائلتهن ، وعائلة أزواجهن . وقد أقيمت الشرائع ، بصورة خاصّة ، لمعاقبة شهوتهن عن فعل الشر ، وشبقهن ، وميولهنّ السيئة وطبيعتهن المعيبة في أعماقها بحيث أن الآلهة نفسها أرادتها كامتحان للرجل (51) .

والفتاة في القصيدة تعلمُ أن اتهامها بالعهر – الذي سيترتب على ذوبانها بين يدي حبيبها – هو طريقة للإنتحار والموت . فأسوأ المصائب التي كانت تصيب المرأة كان الزنى . والبغاء بعد أن كان مقدّساً ، صار إثما وجريمة . وفي كل مكان يُعاقب على "العهر" بالموت : الخازوق ، والإغراق في الماء ، والرجم ، والخنق . في بابل ، كان يُعاقب على هذا الجرم إن كان جلياً ، بربط الشريكين ، ورميهما في النهر .. ثمّ تم تلطيف العقاب في مراحل متأخرة ، ليصبح رمياً بالحجارة الثقيلة من دون الموت !! أصبح امتلاك جسد الإلاهة الأم جريمة .. وصار الحبُّ إثماً .. وليس عبثاً أن إسم مدينة "روما" اللاتيني هو "Roma" وهو مقلوب كلمة "Amor" التي تعني "الحب" . وروما كانت خاضعة لسلطة "القضيب" ، فعلى كل مذبح للعائلة يوجد قضيب يُسمّى (مولّد – Gonius) (ومنه اشتُقت كلمة Genie الفرنسية وتعني جنّي و عفريت وعبقرية) . كل الأخلاق الرومانية كانت محكومة بفكرة القذارة التي تثيرها العلاقات غير المشروعة . فالحب خطر كبير ، كما قال "كاتون" ، لأن العاشق يسمح لروحه أن تعيش في جسد آخر ، لاسيّما أن هذا الآخر قد يكون من "جنس أدنى وشرير" وهو هنا يقصد المرأة !! وفي ظلّ الجمهورية كان الحنان والمودّة الزوجيين ، من الرجس ، فيجب أن يكون مريضاً من يعانق زوجته ، في وضح النهار ، أمام ابنته الخاصة .

وفي ظلّ السطوة البطريركية صار الخداع طريقاً معتاداً لتمرير رغبات الكهّان وخداع الزوج والزوجة بمؤامرات الشهوة لإشباع الغريزة المحرّمة . صار طقس الزواج المقدّس الرائع الذي يستجلب الخصب والنماء للأرض والإنسان وسيلة رخيصة للحصول على اللذة . لقد اصبحت العلاقة الجنسية الحبّية المقدسة في ظل سلطة الأمومة ساحةً للإحتيال والكذب والدسائس . وصار من الأقوال المشهورة المتداولة :

(ما من جانب على شرف مثل مهنة القوّاد قرب المذبح . وما من جانب ليس الزناة فيه هم الأكثر أعداداً ، وأن الرغبة هي أكثر جموحاً في المعابد منها في غرف الدعارة ذاتها)

 

03.02.2015 

 للمزيد من مقالات الكاتب..

صفحة الكاتب والناقد الأدبي العراقي  

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

03.02.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org