<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن مظفّر النوّاب :  (23) (بين الثورة  النوابية .. وحركة السياب الثورية)

 

 

 

مظفّر النوّاب :  (23)

 

(بين الثورة  النوابية .. وحركة السياب الثورية)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة - 2014

 

(( آنه يعجبني أدوّرعالگمر بالغيم ..ما أحب الگمر كلّش گمر ))

                                                 ( مظفر النوّاب )

                                          من قصيدة ( زفّة اشناشيل )

 

(( الكتابة هي عملية تحويل الدم إلى حبر ))

                                              ( ت . س . إليوت )

 

من وجهة نظري الشخصية ، وقد أكون مخطئا في ذلك لكنه اجتهاد على أية حال ،وللمجتهد المخطيء حسنة كما يقال ،إن ما حققه المبدع المعلم ( مظفر النواب ) هو ثورة في الأدب المكتوب باللغة العامية ، بكل مقاييس الثورة الإبداعية .يقابل ذلك ، والمقارنة من مميزات العقل البشري والمعرفة البشرية ومشكلاتهما في الوقت نفسه ،توصيف للتغيير الهائل الذي حققه المبدع الكبير ( بدر شاكر السياب ) بالحركة الشعرية الثورية . وهناك بون واسع بين الثورة والحركة الثورية . في مجال الثورة النوابية كنا أشبه بأناس اعتادوا أن يروا كل يوم بستانا كبيرة من الأدب العامي ثم نمنا ذات ليلة واستيقظنا فإذا بنا نجد غابة جديدة ساحرة قائمة بجوار البستان السابق لم نألف مظهرها من قبل.. لا في شكل شجرها ولا في ثمره ولا في تنظيم صفوفه ؛ غابة آسرة وجدنا لغة طيورها فقط هي اللغة العامّية .. لكنها عامّية ليست كتلك العامية التي كنا نسمعها في البستان السابقة . كانت هذه الغابة مستقلة وقائمة بذاتها .. ظهرت هكذا .. وشاهدناها هكذا .. غابة اسمها (مظفر النواب) . أما بالنسبة لحركة التجديد الثورية التي قادها السياب فهي ، وفي تشبيه مواز ، أشجار باهرة نشأت عبر زمن من أحشاء بستان الأدب المكتوب باللغة الفصحى سابقا . قبل أن ننام كنا نشاهد يوميا الكيفية التي تتشكل فيها هذه الاشجار بيأس وصلابة وكيف تتنامى وتزدهرمن خلال محاولات مستميتة . كنّا نلاحق محاولاتها من أجل التفرّد والتميّز . وفي كل صباح نستيقظ فيه كنا نلاحظ تغيّرا مضافا حييّا ومترددا في أغلب الأحوال ليتراكم ويتحول إلى تحوّل نوعي . كانت تلك الأشجار مماثلة للأشجار السابقة شكلا ولغة طير وثمرا . ثم بدأت عملية ( استحالة ) عضوية تدريجية بحيث تحولت إلى بستان تدخلها فتجد شجرا جديدا باسقا وثمرا جديدا يانعا وطيورا تغني بموسيقا ساحرة جديدة ، لكنك حين تسير بين صفوف أشجار البستان الجديدة ستقودك نهاياتها إلى أحشاء البستان القديمة متعشقة معها ومتواشجة ومحتواة في إطارها العام . وهذه البستان الجديدة كان فيها أشجار باسقة .. فيها نازك .. وفيها السياب .. وفيها البياتي ..ثم تلتها أشجار أخرى لاتقل عنها قيمة فنيا مثل بلند الحيدري ومحمود البريكان وسعدي يوسف وغيرهم .. لكن غابة العامية الجديدة كان فيها مظفر لوحده .. مظفر فقط .. كان غابة كاملة . ولو أمعنا النظر في الكيفية التي تشكّلت فيها الإثنتان – غابة العامية وبستان التفعيلة - من ناحية العوامل المؤثرة ، فسنجد عوامل مشتركة كثيرة ، لكننا سوف نلاحظ فروقات هائلة ، لعل في مقدّمتها الجهة المرجعية التي أنضجت التمرّد في روح أبناء الحركة السيابية الثورية الجديدة ، ونعني بها الأب ( العمودي ) الذي ثاروا عليه ، ألا وهو شاعر العرب الأكبر ( محمد مهدي الجواهري ) .        

  إنّ جبروت الجواهري الشعري وسيطرته المحكمة على الساحة الشعريّة في القرن العشرين كسيّد لا ينازع لقصيدة العمود كان واحداً من أهم العوامل التي هيأت لظهور حركة الشعر الحديث في العراق. يقول (جبرا إبراهيم جبرا) :

(من المهم أن نلاحظ إن قمة الجواهري الشعرية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ، تعاصرها بداية الحركة الشعرية الجديدة في العراق. لم يترك الجواهري للشعراء الشباب متسعاً للمنافسة، وعندما تبلغ الأشكال الشعرية حدّها الأقصى من النضج والقوّة. فلابد من ثورة عليها استبقاءً للطاقة الشعرية وقدرتها للتعبير عن رؤية الإنسان، واستمرارها في البحث عن ما هو ربما أعمق وأوثق صلة بالنفس ، بالتاريخ، بالمجتمع المتغيّر. ومن هنا فإن تجربة بدر شاكر السيّاب مثلاً تنطلق من تمرّد الجواهري إلى ما يشكّل تمرّداً من نوع آخر، أبعد مدى. تجربة الجواهري تبقى تجربة المتمرّد الذي لا بُدّ له مما يتمرّد عليه باستمرار. إنّه تمرّد يتوخى ما ينسجم مع إنسانيته، ولكنه يضع لنفسه أهدافاً قريبة تتصل بالحدث السياسي المباشر. أمّا تجربة السيّاب فإنها تتخطى هذا كله إلى تجربة ذاتية، تنفذ من خلال الحدث السياسي، بل تنفلت منه، الى التجربة الإنسانية الشاملة، تجربة المسيح في صلبه وبعد الصلب) (1).

   (لقد استطاع الجواهري أن يجمع إلى وعيه التاريخي وعياً فنياً عالياً جعله من أعظم الشعراء السياسيين في العالم العربي إن لم يكن أعظمهم، فقصائده تفعل بالمتلقين فعل السحر الخالص.. ولقد شكل قاموسه الشعري المتميز خلفيّة قويّة لشعراء الرفض والثورة في الخمسينيات وعلى رأسهم السيّاب) (2)

و.. (نحن إنّما نؤكد دور الجواهري، هنا دون سواه لأسباب من أهمها إنه ارتبط - وهو في قمة نضجه الفني - بالمدرسة الواقعية، مما جعل الشعراء الشباب في العراق ظلاله، فهم يكتبون شعرهم السياسي والاجتماعي - كما يقول السيّاب - على طريقة الجواهري وكأنهم يحسون - بدرجات متفاوتة - إن هذا اللون من الشعر يكاد يكون مكتملاً إن لم يكتمل فعلاً على يد الجواهري. ولمّا كان الشاعر الحديث يحب أن يثبت فرديته باختطاط سبيل شعري معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة، ولمّا كان هذا الجيل من الشعراء أيضاً قد فاجأته الحرب العالمية الثانية، وهو غارق في عوالم الرومانتيكية الحالمة فأطلعته على الهوة التي تفصله عن مجتمعه، ونبهته الى وجوب نبذ الرومانتيكية والاتجاه الى الواقع ، فقد كان عليه أن يبحث عما يضمن هذا الاتجاه من طريق غير الطريق التي سدّها الجواهري) (3)

   وتتحدث الدكتورة (سلمى الخضراء الجيوسي) في كتابها : (الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث) ، عن تأثيرات الجواهري في حركة الشعر الحديث في العراق ، فتقول :

(هذه هي القوة السحرية التي نشأ تحت تأثيرها السيّاب وجيله. فعند السيّاب تطورت إلى انتحاب طويل مفعم بالاحتجاج والعذاب، لكن التعابير المحمومة المختنقة عند الجواهري تتميز بعنف خاص بها، كما يتميز أسلوبه بفحولة لا مثيل لها في الشعر العربي الحديث، فهو قد استوعب تجارب شعبه العاطفية والروحية كذلك، وشعره يدور حول منبع الأزمة القومية بالذات) (4)

   وفي محاولة لتحديد إنجازات الجواهري الشعرية تضع الدكتورة (الجيوسي) خمسة إنجازات سأحاول اختصارها فيما يأتي مركزاً على تأثيرات الجواهري في حركة الشعر العراقي الحديث :

1-  (الجدّية الشديدة في الموقف حيث لا أثر البتة للتزويقات والتفاهات التي ابتلى بها القسم الأكبر من شعر القرن التاسع عشر. وكان موقفه الجاد، الغاضب حتى التطرف أحيانا، قد قام أساساً متينا لشعر الرفض والغضب في فترة لاحقة) (5)

2-  (إن الانسياب العاطفي القوي في شعره أعطى دفقة التحرير الأخيرة في شعرٍ طالما عانى الزيف العاطفي. وكان كذلك قوة تحرير لروحية الجيل يقوم بدور التطهير ضد التيارات الداخلية الخانقة في الحياة العربية. وقد يكون شعر الجواهري قد قام بدور مهم في تهيئة الشعب العراقي عاطفيا لمقدم الثورة واندلاعها). (6)

3-  (إن الدفقات العاطفية في شعر الجواهري تعطيه قوة ايقاعية ذات توتر يناسب نوع الاندفاعات الغاضبة التي تميز شعر هذا الشاعر. وقد كان لهذه التقنية الايقاعية تأثير فيما بعد ، فقد استغلها الجيل اللاحق استغلالا كاملا. وقد قُدّر للسياب أن يكون أعظم وريث لهذه القوة الكلاسيكية المتمثلة في إيقاعات الجواهري فاستغلها في الشكل الجديد من الشعر الحر، وأعطى ذلك الشكل منذ البداية أساسا متينا لتبنى عليه تنوعات إيقاعية عديدة مبدعة) (7)

4-  (إنّ اللغة الشعرية عند الجواهري غنية ، يختارها بعناية.  فهو يرى أن الكلمة الشعرية هي التي تقرّر إن كان الواحد منّا فنانا أو غير فنان...... والواقع أن الجواهري قد أدخل الى الشعر العربي مصطلحا شعريا جديدا بإدخال كلمات عديدة تشير إلى العنف عنصرا في الحياة العربية ، كلمات مثل الدم ، الموت ، العاصفة ، النار، الضحايا ، الشهداء ، السم ، الجوع ، الغمام ، الضباب ، الثورة ..إلخ. وقد استُغل هذا المصطلح إلى أقصى حدوده في شعر المنابر الذي وافق الثورات العربية المختلفة في حقبة الخمسينيات، لكنه تسلل كذلك بشكل أكثر رهافة إلى شعر كثير من شعراء الطليعة ،وبخاصة السياب ) (8)

5-  (إن الجيشان العاطفي والإيقاعات الحيوية المتطافرة يسندها نوع من النبرة التي، على الرغم من وجودها بدرجة اقل في بعض شعر الرصافي ، تخلق جواً له خصوصيته. وهي نبرة تتراوح بين الغضب المُرعب في قصائده الوطنية وبين انشغال جاد في قصائده الغزلية ، جادٍّ إلى حدّ أن صورة الموت كثيرا ما تتسلل إليها....

وأخيراً فان عبقرية الجواهري الفائقة تكشف عن نفسها في صوره الشعريّة، فهو يقتصد في استعمال التشبيه القديم بما فيه أحيانا من مضامين مباشرة مسطّحة. وقد حلّ محله في شعره ذلك التطوّر الحديث نحو الصورة الحسية، صورة ملموسة، حيوية، مدهشة ، تدعمها كثافة عاطفية) (9)

   (ولعلّ شعر الجواهري ساعد أيضا في إنقاذ الشعر العراقي في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات من الوقوع فريسة لبعض التجارب الجديدة غير الموفّقة التي كانت تجري في مصر، والواقع أنه لم يستطع سوى أفضل الشعراء المصريين في ذلك الوقت أن يكون لهم أي أثرّ في نازك والسيّاب والبياتي.. ولكن (هؤلاء الشعراء الثلاثة وسواهم من شعراء الجيل بعد الجواهري يدينون بقوتهم جزئيا إلى الانجازات المتنوعة التي قدّمها جيلان من شعراء العراق قبلهم، وبخاصة للقوة الكلاسيكية في شعر الجواهري التي لم تكتف بالوقوف شامخة إزاء المحاولات الساذجة التي قام بها الزهاوي والرصافي، بل إنها قطعت الطريق على أيّ محاولات في التجديد قبل أوانها وزودت الجيل الجديد من شعراء العراق في الخمسينيات بأساس متين يبنون عليه....) (10)

هكذا يكون هناك أب روحي ؛ عرّابٌ ، للحركة الشعرية الثورية الجديدة التي قادها السياب .. لكن من هو الأب الروحي للثورة النوابية ؟ .

الجواب  : لا أحد .

فبمن تأثر النواب من شعراء العامية ؟ هل كان لحضور (الحاج زاير الدويج) بموالاته الحكمية التقليدية واشعاره الاخوانية ، رغم فرادتها وأهميتها ، مثلا أثراً في تشكيل رؤيا النواب وحفز مهاراته الإبداعية نحو الخلق والتمرّد ؟ وهل هناك تأثيرات بارزة لـ ( الملا عبود الكرخي ) بسخريات مجرشته المشهورة – رغم أقاويل البعض بأنها مسروقة من شاعر آخر مغمور غدر به – ونقدياته الاجتماعية الفجّة مثلا ، تأثيرات نجدها في شعر النواب ؟ . هل هناك مجال لأي مقارنة منطقية بين نص للنواب وأي قصيدة عامية كُتبت قبله نحتكم إليها بحيث نثبت أن النواب كان وريثا شرعيا لكن متمردا ثائرا على السلطة الشعرية الأبوية الحاكمة في الادب العامي ؟. 

لقد عدتُ إلى كتاب السيد ( علي الخاقاني ) المهم : ( فنون الأدب الشعبي ) ، بأجزائه الأربعة التي جمع فيها كمّاً كبيرا من نتاجات شعراء العامية العراقيين في القرن العشرين حتى بداية الستينات ، وأحصيتُ عدد الشعراء الذين وردت أسماؤهم في فهرست الشعراء في ختام كل جزء من الأجزاء الأربعة ، فوجدتُ أن العدد يقارب الـ (480) شاعرا بينهم الكثير من الشعراء المعروفين آنذاك شعريا ووطنيا بفعل مواقفهم الملتزمة مثل عبد الصاحب عبيد الحلي وعبد السادة الكصاد وحاج زاير الدويج وحسين قسام النجفي وعبد الامير الفتلاوي وملا منفي عبد العباس وملا عبود الكرخي وعبود غفلة وباقر الحلي وعبد الأمير النيار وغيرهم.. وراجعت منجزهم فلم أجد أحداً منهم يمكن أن تكون له سطوة الجواهري الشعرية الضارية التي على النواب أن يتمرد عليها من ناحية ، ولم أجد لأي منهم – على الإطلاق – أي امتدادات فنية أو لغوية أو جمالية أو فكرية - مباشرة أو غير مباشرة - في منجز النواب من ناحية أخرى .

لقد كان النواب نسيج وحده .. غابة شعرية عامية استيقظنا فوجدناها أمام أعيننا تحدّثنا بخطاب عامي جديد على الصعد الفنية كافة .

الهوامش :

----------

1و2و3-الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي – د.محمد حسين الاعرجي – المركز العربي للثقافة والعلوم – بدون تاريخ .

4و5و6و7و8و9و10-  الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث – د.سلمى الخضراء الجيوسي –ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة – مركز دراسات الوحدة العربية -2001 . 

 

26.01.2015

 

للمزيد ..

صفحة الكاتب والناقد الأدبي العراقي  

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

26.01.2015  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org