<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن محبرة الخليقة (22) تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

 

محبرة الخليقة (22)

 

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة 2012 - 2013

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

إنه لغز المرأة وكينونتها الباطنية المنطوية على أسرار الكون . وكان السرّ الأعظم كما قلنا هو الحمل ولغز من أين يأتي الجنين ؟ وما سرّ انتفاخ بطنها ؟ . لكنها لم تكن حبلى بالجنين الأول حسب بل بأسرار الكون الأولى ، فلا يأتي بمخلوق إلا خالق . وبهذا الخالق ارتبطت الخشية والمهابة خصوصا حين تتصاعد صرخات الولادة المخيفة ، وقد سُئل علي بن أبي طالب عن الموت فأجاب : أنظروا إلى المرأة حين تلد . وبالنظر المتوجّس إلى انتفاخ رحم المرأة ، والإستماع الخاشع والمفزوع لصرخات طلقها ، والتقرّب المتردّد والمندهش من جنينها الأول نشأت أول الديانات ، وأشيدت أول المعابد ، وقُدّمت أول التضحيات ، وليس بالوقوف أمام جسد أول قتيل وتأمّله كما يقول سجموند فرويد . لم يكن انتفاخاً وتفريغاً مجرّداً وبسيطاً أبداً ، كان حبلاً بأسئلة الوجود ، وإجابة أوّلية عليها :

(            لا شيءْ

             وما كان غريباً ، مجهولا .

             لا شيءَ ، وما كان عماءً

بدئياً ، ممتلئاً خوفاً ،

                       وذهولا .

            ما كانت في البدءِ المرأةُ

حُبلى بالكائنِ . كانت حُبلى أيضاً

            بالأسئلةِ

            الأولى .

            لم

            تلدِ المولودْ ،

            ولدتْ أيضاً أجوبةً أولى

      عن هذا السرّيِّ الغامضِ

            في

            قلبِ الموجودْ . – ص 452 و453) .

وببساطة يجيب الشاعر الذي يكتنز دائماً الأجوبة لما يشكل من ألغاز الكون ومتعلّقات الوجود ، ففي الشعر "معرفة" خاصة و "علم معرفة" خاص .. علم الشاعر حدْسه الذي لا يخطيء ابدا :

(               لاحْ

                هذا الكونُ كبابٍ ذي قفلٍ ،

    فتقدّمتِ المرأةُ حاملةً

                أوّلَ

                مفتاحْ . – ص 454) (نصّ "الباب") .

ولكنّ الشاعر لا يترك أجوبته عموميّة غائمة تكتنفها ظلال الحدْس وغيومه ، فيجعل "بابه" مفتاحاً لـ "افتتاحيّة الاشياء" :

(               ذهبَ الرجلُ الأوّلُ

                للصيدْ

                جمّعَ ما كانَ أليفاً من

      حيوانِ الأرضِ

                وأصبح راعيْ .

                ولأن المرأةَ تحبلُ ، تنتظرُ المولودَ ،

      فقد كانت في ذاك الوقتِ تظلّ أمامَ الكهفِ ،

وتسألُ : (....)

                 ولماذا هذا الأزرقُ فوقي

يُصبحُ سقفاً من عتمٍ ، أو بستاناً أسودَ ممتلئاً بثمارِ

يحرسها قمرٌ يغدو اقماراً بمياهِ بحيرةِ هذي الغاباتِ ا

المسكونةِ بالأشباحِ ، وهذا

                        الغامضِ

                        والصامتْ

                        من أوراقٍ رحلتْ أمسِ ،

             وعادتْ ،

                        كالعامِ الفائتْ ؟ - ص 455 و456) .

وهي لم تكن تساؤلات محرّدة تُطلق من داخل الذات إلى الخارج ، بل هي تساؤلات ترتدّ لتدور داخل الذات وتتفاعل مع ممكناتها ، لأن ذات الأنثى لم تكن ذاتاً عاديّة ، لم تكن ذاتاً يحتلها فراغ تحوم فيه التساؤلات ، ويبحث عن الملء والإشباع والإحابات التي تسكّن جراحه المعرفية .. أبداً . كانت ذاتاً مزدحمة أيضاً بالإجابات الحائرة التي تبحث عن تساؤلاتها المسكّنة إذا جاز الوصف . كانت ذاتاً ممتلئة تحمل هواجس خالق قادر على فهم اسرار المخلوقات وتدبيرها مشفوعة بالحاجة لتدبير المخلوق الذي في أحشائها ، والذي عطّل وقتيّاً – لكنه كان تعطيلا حادّاً تصوّرته أبدياً – تحوّلات جسدها . وهي الوحيدة التي كانت تلك التحوّلات العميقة والمثيرة للرهبة لأنها ملوّنة بالدم تترافق مع تحوّلات كونيّة غريبة وتنعكس عليها . تحوّلات كونيّة تقرّر مسارات حياة الإنسان والأهم فيها خصبه ومطره وسبب بقائه وديمومة وجوده . لهذا من يتساءل يجب أن يكون مهيّئاً ليس لطرح التساؤلات حسب بل لتسلّم "رسالة" الأجوبة ، على طريقة إحدى الحكم المأثورة : "عندما يجهز التلميذ يظهر أستاذه" . إنّ أغلب الإجابات الكونية الناجزة حصلت عليها الأنثى بفعل غنى ذاتها من جانب ، وبفعل عامل "الإنتظار" المكتنز بالتطلّعات من جانب ثانٍ مكمّل . لم تكن تنتظر بقلق رجوع رجلها الصيّاد أو الراعي كما يريد جوزف حسب بل ما الذي سيحصل بعد انتفاخ رحمها وانقطاع دورتها ، وما الذي سيجيء منها ، ومن أين سيخرج ؟ فقط لنتخيّل المرأة الأولى حوّاء وحملها المفاجيء الأول ، أو لنتخيل المرأة الأولى وأول قطرات دم سالت على فخذيها في الدورة الشهرية الأولى . من منّا يتذكّر ردّة فعله على دم يسيل من أنفه بلا سبب .. أو رعبه وهو يرى الدم جارياً مع بوله ؟ نحن نحاكم التغيّرات العشتارية اللاهوتية الكونية التي أنمت لديها شعورها الراسخ بكونها المطلق أو تنطوي عليه بعد آلاف السنين ، وتحديداً بعد أن أفسد العلم كل تلك الظواهر الأنثوية بامتياز بالتفسير وبتعريف مكوّناتها . لكنه لم يستطع تفسير أسبابها . إلى الآن هو عاجز عن تفسير "حكمة" البكارة . ولا دم الحياة .. ولا أسرار الحمل ولا الولادة بهذه الطريقة . لكن المشكلة أنه سطّح الظواهر التي كانت تثير أحاسيس رهبة القداسة بأنها أنسجة وعضل ونويّات وحوامض أمينيّة . وقد اسهمنا نحن أيضاً كمعرفيين قادة أو مبدعين وهذا هو الأخطر في هذا الإفساد . فقد الغينا من روح وعقل الإنسان الجانب الأسطوري المقدّس ؛ جانب الخشية الضرورية مما هو متعال وما ورائي ومطلق . ولنتذكر حملة الحداثة الغربية وما بعدها على الميتافيزيقا وخرافاتها كما أسموها . جعلوا كل إنسان إلهاً . وكانت نتيجة ذلك هذه "الفرعنة" التي لا تغتفر . دمار وحروب ودم وخراب . وهذا جانب خطير من دروس منجز جوزف حرب الملحمي هذا . فلنحفظ هذا الدرس جيّداً . ليحفظه النقاد ويورثوه للقرّاء جيلاً بعد جيل لإعادة توازنهم النفسي .

لم تملأ الأنثى وقت انتظارها بالاسئلة لتزجية الوقت الطويل الثقيل ، بل كانت تقلّب الأجوبة في ذاتها . وكان الدور الأعظم لعملية الإنتظار المقلقة والخلّاقة المرتبطة بتحوّلات أحشائها .. ثم الإنتظار الذي غيّر العالم قرب رأس وليدها .. وانبثاق الحليب من ثدييها .. ثدي المرأة وحده كون قائم بذاته . إله مكوّر ملموم ومشفق يعرف مواعيد خلقه وواجباته من دون طلب . جسد المرأة يتكوّن من مشاغل إلهية مستقلة ومترابطة لها حدودها ومسؤولياتها المقدّسة . هذه الذات تختلف عن الذات الذكورية ، ذات الصيّاد الذي أصبح راعياً . هي ذات خالقة ومقدِّرة ومسؤولة عن مصائر تتحكّم بها . هذه الذات هي المهيّئة لأن "تمتزج" فيها أسئلتها وأجوبتها الداخلية لتنتج – على الطريقة الهيغلية – "تركيب" الألوهة الأرضي قبل أن يُسلب ويُضيّع بمخالب الذكورة القاسية . وعليه فعندما يصف جوزف حرب الفعل الريادي للأنثى بالقول :

(                   المرأةُ ، أمّ الخصبِ ، الحُبلى ، سألتْ

عرفت ،

كشفتْ ،

دُهشت ،

وأجابتْ ، قبلَ الرجل الصيّادِ الراعي ،

                  هي أوّلُ من فتّشَ عن

          سرٍّ ،

                  واكتشف

                  الزرعْ .

                  أولُ من لاحقَ هذا الليلَ

                  بسيفِ الشمعْ .

                  أوّلُ من فسّرَ رقصَ

        نباتِ الأرضِ ،

                  وحرّكَ

                  روحَ السحرْ ،

                  أولُ من فسّر معنى

        الموتِ ،

                  وقالَ الشعرْ .

                  أولُ من حرّكَ

                  في ماء الزمنِ الفكرْ . – ص 457 و458) .

  فلأنه يدرك – ويريد منّا أن نُدركَ معه – هذا المشغل الجسدي الأنثوي الخالق الذي نضجت أجوبته الداخلية على تساؤلاتنا الموجعة والمؤرّقة تحت خيمة الإنتظار المعجز المديد . هنا – وبمعادلة شديدة الغرابة – (ينطلق الروحاني من المادي ، ليس كقطيعة من الطبيعة وذوباناً في نيرفانا إلهية تنكر كل رابط أرضي . لأن روحانية المرأة ، على عكس روحانية الرجل ، تنطلق من المادي وتبقى مخلصة له . إن كل تصعيد لديها يبدأ من حركة الجسد الدينامي ، لا من حركة الذهن المجرّد ، والعقل التأملّي البارد) (47) .

وقد جعل جوزف إبداع المرأة لفن – أو رسالة – الشعر ، متأسّساً على نجاحها في تفسير معنى الموت . وهو ما يؤكد أن الشاعرة الأولى في تاريخ البشرية هي أم تأمّلت موت ولدها الوحيد ومصيره اللاحق ، وكيف دفنته في رحم الأرض لتعيده إلى رحمها الأم . ولهذا كانت الحياة الآخرة بالنسبة للمرأة حياة أرضية ومخرجة بطريقة "شعرية" مباشرة ، ولا توجد فيها مداورات سماوية وتعقيدات ملائكة وشياطين وجلد وحساب . فنحن لا نشعر بحقيقة فنائنا إلا إذا انخلع من أنانا جزء عزيز يمثل محبوباً استدخلناه ، وهو لن يكون أعزّ من إبن على الأطلاق وفي أي حساب نفسي .

وبعد.. أليس من حقّ عشتار الآن أن تتحدّث عن نفسها ممجدة ذاتها الكونية التي تتسع لكل الوجود وتصدّره :

(أنا الأول .. وأنا الآخر

أنا البغي .. وأنا القدّيسة

أنا الزوجة .. وأنا العذراء

أنا الأم .. وأنا الإبنة

أنا العاقر .. وكثرٌ هم أبنائي

أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجاً

أنا القابلة ولم أنجب أحداً

وأنا سلوة أتعاب حملي

أنا العروس وأنا العريس

وزوجي من أنجبني

أنا أمّ أبي ، وأخت زوجي

وهو من نسلي )

وفي رأي الكثيرين من المختصين بالأسطورة والأنثروبولوجيين والمحللين النفسيين أن قصص التكوين وأساطير الخليقة محكومة مسبقاً بموقف الفرد من والديه ، الموقف المُختزن في اللاشعور . ويمكنك تخيّل موقف الإبن من الأم ومقارنته بموقفه من الأب . وبسبب هذا الموقف ، ولكل تلك الأسباب السابقة مجتمعة (الحمل والولادة ومشغل جسد الأنثى الربّاني ودم الحياة وحليب الخلق .. وغيرها) كان من المؤكّد أن أول إله تمّت عبادته هو أنثى .. رحماً أو فرجاً بالتحديد .. وكانت أول ديانة آمن بها البشر هي ديانة المرأة :

(               أوّلُ دينٍ

                سادَ هذي الأرضْ ،

                وكان يدعو للغناءِ ، والهوى ، والرقصِ ،

والشعرِ ، ونحتِ الخصبِ في النساءِ ،

                لا غزوٌ يشيعُ فيه ،

                لا دمٌ يُراقُ ،

                لا مجاعاتٌ ، وجفنٌ

                               دامعٌ ،

                أولُ دينٍ

                سادَ هذا الأرضْ ،

                وكانَ فيها أنثويّ الخلقِ والنشأهْ ،

                ومارسَ

                الرجلْ

                فيهِ الذي مارسهُ

                من بعدهِ الرسلْ

                عبادةُ المرأهْ . – ص 460 و461) (نصّ "الدين الأول") .

 

08.01.2015

 

 

صفحة الكاتب والناقد الأدبي العراقي  

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org