<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن علي الوردي : (16) ضعف روح المواطنة بين العراقيين

 

 

 

 

علي الوردي : (16)

 

فشلت نبوءته في زوال الطائفية من العراق

 

من وعّاظ السلاطين إلى الوعّاظ المتفرنجين

 

ضعف روح المواطنة بين العراقيين

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

وتمثل الصفحة الأخيرة من الفصل الحادي عشر : "قضيّة السنّة والشيعة" من كتاب "وعّاظ السلاطين" للدكتور علي الوردي الذي يصف فيه الواقع الديني في العراق آنذاك، والموقف الطائفي المترتّب عليه، ونظرته إلى مستقبل هذا الموقف ، ثم نمو ما يمكن تسميته بـ ( التديّن ) السياسي بين العراقيين جراء ضعف التديّن الروحي ، ثم ضرورة وجود ( دين ) ما للنفس البشرية ، موضوعات حسّاسة سنبحثها في المواضع المخصصة لها . لكن من الضروري أن ننقل ما سطّره الوردي في ختام هذا الفصل :

( ضعفت نزعة التديّن في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية ؛ حيث صاروا لا دينيين وطائفيين في آن واحد . وهنا موضع العجب . ومن الممكن القول على أية حال أن الطائفية في العراق في طريق الزوال . فهي لا تستطيع أن تبقى في المجتمع مدة طويلة بعد ذهاب أبيها الدين . إنها الآن في مرحلة الإنتقال إلى رحمة الله تعالى . وهي ستلحق بأبيها المرحوم عاجلا أم آجلا . إن الذي أبقى الطائفية في العراق هو حب الوظيفة الحكومية . وهذه الوظيفة سوف لا تبقى مطمح الأنظار طويلا . فلقد غصّت أبواب الوظائف بطلابها ، وأخذ الناس الرزق من أبواب أخرى . قرُب اليوم الذي يفهم الناس فيه الحقائق على نمط آخر . فقافلة المجتمع لابد أن تصل إلى نهاية مطافها في يوم من الأيام. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أن ضعف التديّن في العراق أدى إلى تضخيم نزعة الثورة فيه بدلا من تقليصها. أراد الحكام في العراق أن ينشروا النزعة العلمانية ليكافحوا بها الثورة فانعكست في أيديهم الآية ، وانقلب عليهم ظهر المجن . فالجيل الجديد حين ترك التعصب الديني التزم مكانه تعصبا آخر أشد منه وطأة . وأخذ يتحمّس للمباديء المستحدثة تحمّسا غريبا لا يضاهيه فيه أي قطر من الأقطار العربية الأخرى . فبعدما كانت في العراق طائفة واحدة تنزع إلى الثورة ، صارت جميع الطوائف في ثورة واختلط الحابل بالنابل .

إن النفس البشرية تهوى الإيمان بدين ، فإذا فقدتْ دينا جاءها من السماء التمست لها دينا يأتيها من الأرض ) (108) .

في الفصل الأخير : ( عبرة التاريخ ) ، يقدم الوردي خلاصة وافية لمشروعه ، فيبيّن أن الغاية من كتابه هذا هو استقراء حوادث التاريخ الإسلامي في ضوء المنطق الإجتماعي الحديث ( المخالف للمنطق الأرسطي ) ، وأن هذا الاستقراء قد كشف وجود فريقين في هذا التاريخ يتنازعان البقاء : فريق السلاطين من جانب ، وفريق الثوّار من الجانب الآخر . وقد أسّس معاوية المُلك الوراثي في الإسلام ، وأسّس علي إزاءه الثورة الجامحة . وأخذت هاتان النزعتان المتضادتان تتفاعلان جيلا بعد جيل . وهذا التصنيف مقرر في القرآن الكريم كما جاء في الآية الكريمة :

( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ) . فالقرآن يصنف قادة الناس في الأزمنة القديمة إلى صنفين متضادين : مُنذِرين ومُترَفين . ولم يكن الأنبياء سوى ثوار يتبعهم الفقراء والمساكين . وأن البلاء ، كل البلاء ، يعم حين يحف بالحاكم مرتزقة من رجال الدين ( الذين سمّاهم الوردي وعّاظ السلاطين ) :

( فهؤلاء – حسب الوردي – يجعلون الحاكم ظل الله في أرضه . ويأتون بالملائكة والأنبياء ليؤيدوه في حكمه الخبيث . وبهذا يمسي الحاكم ذئبا في صورة حمل وديع . وهم في وعظهم يتناسون حقيقة علمية اجتماعية مهمة تتمثل في أن العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها بمجرد أن تعظ الحاكم أو تخوّفه من عذاب الله . فالحاكم قد يخاف الله أكثر منك وهو قد يعظك كما تعظه . العدالة الاجتماعية لا تتأتى في مجتمع إلا بعد تنازع الحاكم والمحكوم فيه ).

والوردي يجعل الصراع الاجتماعي فالثورة فالتغيير حتما جذريا في حركة أي مجتمع . وأن محاولة الحكام تعطيل هذا الفعل الحتمي هو الذي يجعلهم يستأجرون لهم أعوانا من وعّاظ السلاطين . يواصل الوردي القول :

( إن الثورة نزعة أصيلة من نزعات المجتمع المتمدن ، لا يستطيع أن يتخلى عنها إلا إذا أراد أن يسير في طريق الفناء . فمنذ ظهر نظام الدولة ظهرت إزاءه نزعة الثورة . وظلت هذه النزعة العارمة تواصل ضرباتها جيلا بعد جيل .. لا تهدأ ولا تفتر ) (109) .

وبفعل موجهات مشروعه الحاكمة التي تقضي بنقل ( عبرة التاريخ ) والنظر إلى التراث كدرسٍ يُراجع لبناء الحاضر والتأسيس للمستقبل ، وليس كصنم يُعبد ، وكتجربة تُستعاد من جديد ، فإنه يؤكد أن الديمقراطية في الأمم الحديثة لم تأت من جراء أفكار صبيانية تحذلق بها وعاظ السلاطين ، إنما هي نتيجة معارك ثورية طاحنة قامت بها الشعوب في وجوه الحكام المستبدين . ويدعو الوردي ، بإلحاح إلى اعتماد نظام التصويت الذي يعده ( ثورة مقنّعة ) ، ويعد الانتخاب ( ثورة هادئة ) .

# من وعّاظ السلاطين إلى الوعّاظ المتفرنجين :

----------------------------------------------

ويوسّع الوردي النظرة إلى من سمّاهم ( وعاظ السلاطين ) فيضيف إلى وعّاظ السلاطين من رجال الدين المساومين صنفا آخر يسمّيه (الوعاظ المتفرنجين) الذين نما نفوذهم بعد أن ضعف نفوذ وعاظ التدين :

( إن الوعّاظ ( المتفرنجين ) لا يختلفون عن الوعاظ ( المعمّمين ) إلا بمظاهرهم الخارجية ومصطلحاتهم التي يتمشدقون بها . هؤلاء يصيحون : ( الدين ... الدين ... يا عباد الله ) وأولئك يصيحون يهتفون : إلى الأمام .. إلى الأمام ، وهؤلاء يهتفون : إلى الوراء .. ولعلهم يفعلون ذلك لكي يخدرّوا الناس ويشغلوا أذهانهم عن النظر في مشاكلهم الراهنة التي هي ليست إلى الأمام ولا إلى الوراء ) (110) .

والوردي بهذا يشخص ، وبصورة مبكرة ، معضلة تعاني منها الأمة الآن وتتمثل في المثقفين ( المتغرّبين ) الذين يتخمون أذهان الناس بالمصطلحات الغربية المعقدة ، ويضعون الأنموذج الغربي كرقية سحرية قادرة ، حين اتباعها ، على حل مشاكل بلداننا المتخلفة كافة :

( الوعاظ المتفرنجون لا يقلّون عن المعمّمين في ولعهم بالنصائح الفارغة . فلا يكاد أحدهم يذهب إلى بلد من بلاد الغرب حتى يرجع وقد انتفخت أوداجه غرورا وتحذلقا . ويأخذ عند ذلك بتمجيد سجايا الغربيين وسمو أخلاقهم . ثم ينظر إلى من حوله من البؤساء فيرمقهم بنظرة ازدراء ويقول : مالكم لا تتخلقون بأخلاقهم ؟

يفتخر المعمّمون بأخلاق السلف الصالح ، ويفتخر المتفرنجون بأخلاق الغربيين ) (111) .

والوردي يرى إن الإثنين – وعّاظ السلاطين المعممين ، ووعّاظ السلاطين المتفرنجين – يصلان في النهاية إلى النتيجة ذاتها ، وهي تثبيت أسس الحكم الدكتاتوري المتسلط ، وتثبيط معنويات المستضعفين وشلّ إرادتهم . وهو يؤشر ظاهرة مرضية كانت قائمة آنذاك ثم استشرت في العقود اللاحقة ، وتتمثل في السعي اللاهث إلى إحياء الأمجاد القديمة ( الذهبية ) ، دون التمييز بين معنى ( الإستعادة ) الإتباعي الذي ينم عن العجز وانعدام الخلاقية ، و ( التمثّل ) الذي يعكس الخلاقية العالية والإرادة الفاعلة في بناء الحاضر :

( إن من المؤسف حقا أن نرى العراق الحديث تسوده أفكار من نوع تلك الأفكار السلطانية . فلقد أصبح كثير من المتعلمين فيه لا يكترثون بما يُصب على رؤوس الفقراء من بلاء . جلّ همهم مُنصبّ على إعادة المجد التليد . وهم لم يقتنعوا بمجد الرشيد – المتلذذ بأمر الله كما يسميه الوردي – وحده ، فجاؤونا علاوة على ذلك بمجد حمورابي وآشور بانيبال . ولو كانوا من أهالي سمرقند لأضافوا إلى ذلك مجد تيمورلنك خان . دأبهم أن يشيدوا المتاحف ويعمروا القصور لكي يستحسن منظرها الأجانب ويرتفع بها اسم الوطن عاليا في سماء الخلود كما يظنون ) (112) .

# ضعفت روح المواطنة بين العراقيين لأن الوطن وطن الجلاوزة :

---------------------------------------------------------------

ويضع الوردي ، عبر هذه المداخلة الطويلة ، إصبعه على جرح متأصل وشديد التأثير ، وهو المرتبط بنضج مفهوم الوطن ، واستواء مفهوم الرابطة الوطنية في نفس المواطن العراقي التي يعتقد أنها لم تتأسس بصورة صحيحة حتى الآن ، فكيف أذود – كما يقول الشاعر – الطير عن شجر ، ابتليت بالمرّ من ثمره ؟ . إن محنة بلورة مفهوم الوطن وتشكلات الرابطة الوطنية في ذات العراقي هي محنة راسخة وتتطلب وقفة متأملة وهادئة قائمة على العلم كما يرى الوردي ، وقد كان للتغافل عن دعوة الوردي الخطيرة هذه أبلغ الضرر على السلوك العام للمواطن العراقي ونظرته إلى ثروات وطنه ومسؤوليته عنها ، وموقفه من الدولة الذي اتسم بالإغتراب والانفصال المدمر :

( ولو أصغينا إلى الأناشيد التي يترنمون بها كل حين لوجدناها تردد ذكر ( الوطن ... الوطن ) . ولست أدري ماذا يقصدون بهذا الوطن الذي يتغنّون باسمه . إنه في الواقع وطن الجلاوزة والمترفين وأبناء الذوات . أما الفقير فقد بقي كما كان في أيام السلاطين ، يفترش الأرض ويلتحف السماء . فلو أنهم باعوا هذه المتاحف التي يفتخرون بها ، إلى المترفين من أبناء الأمم الأخرى ، ثم شيّدوا بأثمانها خزانات يدرأون بها هذا الفيضان الخبيث ، لخدموا بذلك السواد الأعظم من المواطنين . والمصيبة أنهم يريدون أن يفتحوا العالم ولا يريدون أن يفتحوا بلادهم أو ينقذوها من براثن المرض والجهل والفاقة  ) (113) .

إن الفقرة الختامية من كتاب الوردي هذا تلخص موقفه الثوري الذي جسّده في أطروحات كانت شديدة التميز والتأثير وقتها ، ومازال بالإمكان استخلاص الدروس والعبر منها ، حيث لم يحصل انقطاع جذري عن التراث كمرجعية صنمية تقرب من العلاقة التوثينية ، بل بالعكس أصبحنا نسمع دعوات ردة وعودة إلى ما هو أشرس من ذلك . فقد ثبت أن مشروعه التفاؤلي لم يتعطل ويثبت نقيضه بعد نصف قرن من أطروحاته الثورية حسب ، بل أن الأطروحات ( الجديدة ) أوغلت في الردة ليس إلى عصره الذي كان يدينه فقط ، بل إلى العصر الموميائي الذي رفضه الوردي بصورة قاطعة . إن من الضروري أن نستعيد الفقرة الختامية هذه لأنها تُلهمنا ، أو تُلهم - حسب تعبير الوردي - من لديه الاستعداد كي يستلهم مستندا إلى نظرته إلى طبيعة النفس البشرية - وهي نظرة فرويدية – الدرس الأساسي الذي أُجهض بفعل عامل رئيس هو عدم فهم أن طبيعة الإنسان – كما يقول الوردي – بحاجة إلى ضوابط ولا صلة لها بالفرضية ( الفطيرة ) والخطيرة التي ترى أن الإنسان طيّب بالفطرة ، وإنه مخلوق على صورة الله سبحانه – وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع ؛ الموقف من الإنسان الإبليسي ، لاحقا ، في كتاب الوردي المقبل المكمل لهذا الكتاب وهو : ( مهزلة العقل البشري ) - ، ولهذا ينهي الوردي كتابه الخطير هذا بدعوة ثورية ؛ دعوة تقوم على أساس استنفار همم المسحوقين والمستضعفين بشكل خطابي ملتهب لو اقتطع من سياقه القرائي لأحسسنا بأنه جزء من خطابات أحد الثوار المعروفين في تاريخ البشرية الحديث :

( لقد آن الأوان لكي نحدث انقلابا في أسلوب تفكيرنا . فقد ذهب زمان السلاطين وحل محله زمن الشعوب . وليس من الجدير بنا ونحن نعيش في القرن العشرين ، أن نفكّر على نمط ما كان يفكّر به أسلافنا من وعاظ السلاطين .

لقد آن لنا أن نفهم الطبيعة البشرية ، كما هي في الواقع ، ونعترف بما فيها من نقائص غريزية لا يمكن التخلص منها ، ثم نضع على أساس ذلك خطة الإصلاح المنشود .

أما أن نعتبر الإنسان ملاكا ونطلب منه أن يسير في حياته سيرة الأنبياء والقديسين ، فمعنى هذا أننا نطلب منه المستحيل ونجعله كالخنفساء الملتاثة في صوف : تسعى من غير طائل .

ويبقى الطغاة حينئذ يعيثون في الأرض فسادا ... وهم آمنون ) (114) .

07.01.2015

 

 

صفحة الكاتب والناقد الأدبي العراقي  

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org