<%@ Language=JavaScript %> أحمد الحارثي دور الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في نشأة وتطوير رؤية اليسار العربي

 

 

 

دور الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين 

 

في نشأة وتطوير رؤية اليسار العربي

 

 

 أحمد الحارثي 

 

          فور تأسيسها كجناح يساري خرج من رحم "حركة القوميين العرب" آنئذ، بدأت "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" في التأثير على محيطها في الجوار الفلسطيني، ثم في شرق وغرب العالم العربي. وفرضت نفسها كمكون أساسي من مكونات الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعنصر فاعل وحيوي في زرع ونشر الأفكار الثورية في المحيط العربي المأزوم والراكد.

وقد تأتى لها ذلك بفضل تظافر عوامل متعددة ومتنوعة لازمتها في النشأة والتطور، وأثرت في مسيرتها النضالية الطويلة على امتداد أكثر من أربعة عقود من الفعل السياسي الممزوج بالمقاومة العسكرية.

ثمة بالطبع المسائل المرتبطة بالواقع الموضوعي المساعد في الأقطار العربية، الناجم أساسا عن الهزيمة في حرب يونيو 1967 التي كشفت عن كبو الأنظمة العربية الإقليمية القائمة، وبخاصة منها دول المواجهة القومية؛ وما خلفه ذلك من مناخ متسم بحالة الضياع التي كانت تشعر بها وتعاني منها الشعوب والنخب العربية. ثم هناك أيضا القضايا المترتبة عن تواطؤ أجنحة هذه الأنظمة الأكثر رجعية التي تقاوم التغيير وتكبل تطلعات الشعوب إلى الحرية والتحرر الوطني، وترضى بالتبعية للدوائر الأمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل إنها تشكل السند المحلي لتمرير مخططات هذه الأخيرة الرامية إلى إحكام القبضة الأمنية والسياسية على المنطقة ومواردها النفطية. دون إغفال خطوط الاختراقات التي كانت تنسجها استراتيجيات القوى العظمى في المنطقة إبان الحرب الباردة، وتقاطعاتها مع المصالح -المتفاوتة الدرجة طبعا-، القطرية أو الجماعية، للدول العربية. علاوة على المد الثوري الكوني الذي ميز حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وبلغ ذروته سنة 1968 مع صخيب موجات الاحتجاج والرفض وصعود اليسار الجديد على الصعيد العالمي؛ إلخ.

إلا أن العامل المركزي الذي أهل "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" لتبوؤ مركز الصدارة في التأثير النوعي على مجرى الأحداث في المشهد الفلسطيني، ثم في الساحة السياسية والحزبية العربية، تمثل أساسا في اعتناقها الماركسية اللينينية صراحة وتحديد هويتها السياسيىة والإديولوجية بوضوح، ثم الاجتهاد والمثابرة في تبيئة مرجعية الفكر الماركسي عربيا.

ولا يفوتنا هنا التذكير بالوظيفة الفكرية والدعائية التي كانت تقوم بها مجلة "الحرية" التي أضحت آنذاك تصدر باسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" منذ التأسيس، بمعية "منظمة العمل الشيوعي في لبنان"، وذلك إلى حدود سنة 1977 حيث صارت ناطقة باسم "الجبهة" وحدها. فقد كانت نسخ هذا المنبر الطليعي تتجاوز الحدود القطرية، رغم صرامة الرقابة الأمنية، ويتلقفها بتعطش جمهور واسع من الشباب المتعلم والفاعلين السياسيين والنخب المثقفة، خاصة في صفوف القوى الوطنية والتقدمية وفي الأوساط الديمقراطية المحسوبة عموما على اليسار.

كما لا يخفى على الملاحظ أن "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" تعاملت بكيفية خصبة مع الماركسية، ليس كإطار فكري وحسب، بل كذلك كسلاح إيديولوجي قوي، مكنتها من بلورة تصور سياسي واضح ومنسجم للواقع العربي، وطرح البديل الثوري لتجاوز تناقضاته الداخلية والتبعية الخارجية الملازمة له. فقد قامت بتأصيل أطروحة الصراع الطبقي في ظل الاحتلال الذي تتجسد خصوصيته في طبيعته الاستيطانية وفي وعائه الصهيوني المرتبط عضويا بالأمبريالية العالمية. وكشفت عن العلاقة الجدلية القائمة بين الصراع الطبقي المحلي، والكفاح التحرري الوطني، والنضال القومي العربي، وحركات التحرر الأممية؛ ولا سيما ارتهان الثورة الفلسطينية بالثورة العربية. وعلى قاعدة هذا الترابط العضوي بين مختلف هذه المستويات، كان واضحا للقبادة السياسية أن تعدد الجبهات يستوجب الاجتهاد في تحديد التناقضات الأساسية والثانوية، والتمييز بين الأعداء والخصوم والحلفاء.

مسلحة بالمرجعية الفكرية والإيديولوجية الماركسية، الكونية والحداثية بامتياز، انكبت "الجبهة الديمقراطية" على تشخيص الواقع وفق رؤية عمادها التحليل الطبقي، وبادرت باقتراح الحلول الناجعة لمعالجته. ثم قامت برسم خط سياسي ملائم للمرحلة، وحدوي وديمقراطي، يمزج الفعل السياسي بالعسكري، ويثمن النضال الجماعي المنظم. مما سمح لها بتلافي السقوط في فخ العمل الفردي: الإرهاب، الذي  كان يعتبره لينين سياسة "الأقل مجهود"، أو الوجه الآخر للعفوية. وانسجاما مع أطروحتها المركزية في تفسير أسباب "النكسة"، كانت تنشد ممارسة ديبلوماسية هجومية، خاصة اتجاه الأنظمة الرسمية العربية، وذلك خلافا للموقف السائد حينئذ وسط المقاومة الفلسطينية والداعي إلى مهادنة هذه الأنظمة.

هكذا تمكنت من تجاوز "حركة القوميين العرب" وسقفهم المذهبي والسياسي، بتقديم البديل اليساري الثوري؛ ثم التجذر في وسط الشعب الفلسطيني، وجلب الأنصار من مختلف المواقع والمشارب، إذ التحق بها وهي في طور التأسيس العديد من التنظيمات والأطر السياسية والفعاليات الثقافية...

ومما جعل "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" منظمة منفردة عن غيرها، الاستقلالية التامة التي ميزت قائدها نايف حواتمة، ليس فقط عن ياسر عرفات وباقي القيادات السياسية الفلسطينية والعربية، بل أيضا عن كلية الأنظمة العربية الرسمية، والدول الأجنبية، بما في ذلك الحليفة مثل الاتحاد السوفياتي سابقا أو الصين الشعبية، إلخ. وهذا ما ساعدها كثيرا على تجنب مساوئ "سياسة المحاور" العربية، ومواجهة استراتيجيات القوى العظمى في المنطقة، واتخاذ المواقف بدرجة عالية من الجرأة، وعدم التردد في إعمال النقد الذاتي لتصحيح أخطائها كلما تبين لها ذلك.

ساهمت "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" على نطاق واسع في التأثير على بروز وتطور "اليسار الجديد" في العالم العربي. وذلك إلى جانب عوامل داخلية وخارجية أخرى طبعا، كان لها وقع متغير في هذه الصيرورة، حسب كل بلد على حدة. لعل أهمها الهزيمة في حرب 1967 التي كانت وراء ظهور اليسار الفلسطيني ذاته، وأصداء ثورة ماي 1968 في فرنسا، والثورة الثقافية الصينية (1966)، وحركات الاحتجاج والرفض العالمية، والشروط التاريخية المحلية، إلخ.

يكفي إلقاء نظرة على الأدبيات السياسية لقوى ذلك "اليسار الجديد" في مرحلة تأسيسه للتأكد من ذلك؛ حيث نعثر على الأفكار عينها التي كانت تروجها "الجبهة الديمقراطية" تحديدا، ونفس التحليل الطبقي، والاستراتيجية المقترحة... فأهم الأطروحات المركزية التي نجدها هنا وهناك تتمحور حول تفسير أسباب "النكسة" بكونها ليست عسكرية ولكن طبقية، تكمن في عجز الأنطمة القومية ذات الطبيعة "البورجوازية الصغرى" عن قيادة معركة التحرير الوطني، وبناء اقتصاد متطور ومستقل، وخلق جيش شعبي عصري. وتخاذل الأنظمة الرجعية التي يسيطر عليها الإقطاع والكومبرادور والمتواطئة مع الأمبريالية. البديل الوحيد المطروح هو العمل على بناء الحزب الطليعي بتحالف العمال والفلاحين المنوط به مهمة إنجاز الثورة الديمقراطية الوطنية الشعبية عبر حوض الحرب طويلة الأمد؛ إلخ.

          كانت أصداء التأثير تختلف من بلد لآخر، وبين مشرق ومغرب العالم العربي. إلا أن القاسم المشترك في نشأة "اليسار الجديد" يتمثل في كونه نبع  عموما من جسدين أساسيين: الأحزاب الشيوعية التي يعود تاريخ ولادتها إلى العقد الثاني من القرن الماضي، وغالبا تحت وصاية الأحزاب الأم في الغرب، والتي "تعرَّبت" فيما بعد؛ والحركة الوطنية والقومية العربية.           

          في المغرب، ظهرت تنظيمات "اليسار الجديد" إلى الوجود سنة 1970 بتأسيس "منطمة 23 مارس" (التي سوف يخرج منها تنظيم "لنخدم الشعب") ثم "منظمة إلى الأمام" بانشقاقهما على التوالي من "حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" و"الحزب الشيوعي المغربي". الغريب في تجربة هذه التنظيمات السرية أن القمع الشرس الذي تعرضت له أودى إلى شلها عن الحركة والقضاء عليها تماما في وقت وجيز، لا يتجاوز السنتين من عمرها التنظيمي القصير.

نفس الشيء حدث في تونس مع نشأة حركة "آفاق –العامل التونسي" في سنة 1970 من صلب "مجموعة الأبحاث والعمل الاشتراكي في تونس" التي تأسست في باريس سنة 1963 - تاريخ منع "الحزب الشيوعي التونسي"- حيث كانت تصدر مجلة "آفاق تونسية" بالفرنسية، ثم نشرة "العامل التونسي" بالعربية ابتداء من 1969. انفجرت تحت وطأة القمع سنة 1975 إلى ثلاثة تنظيمات.

في موريتانيا أيضا، انطلقت في سنة 1968 موجة احتجاجية قوية  بتنظيم من "الحركة الوطنية الديمقراطية" التي كانت تحت تأثير الفكر القومي العربي القادم من المشرق، والماركسية، وأحداث ماي من نفس السنة في فرنسا. وأفرزت هذه الدينامية "حزب الكادحين" الموريتاني، الماركسي اللينيني، الذي تأسس سنة 1973، باعتباره الطليعة السياسية لتلك الحركة. لكن أطر هذا الحزب سوف تلتحق في معظمها بالحزب الوحيد الحاكم ("حزب الشعب الموريتاني") إثر إعلانه في أواخر السنة الموالية عن تأميم شركة "ميفيرما" (معادن الحديد في موريتانيا).

ظلت الجزائر خارج التأثير، بحكم إرساء نظام الحزب الواحد، "جبهة التحرير الوطني" التي قادت "حرب التحرير" (1954-1962). ثم ذيلية "الحزب الشيوعي الجزائري" قبل "حرب الجزائر"، ومنعرجاته بعد حظره سنة 1955 والتحاق مقاتليه بـ "جيش التحرير الوطني"، ثم عودته مجددا في الفترة الانتقالية، وحظره مباشرة بعد الاستقلال، قبل أن يقوم بعض قيادييه بتشكيل "منظمة المقاومة الشعبية" التي اضطرت إلى الدخول في السرية تحت القمع لأنها ناهضت الانقلاب العسكري ضد بن بلة سنة 1965. خُلق "حزب الطليعة الاشتراكي" سنة 1966 وظل في السرية حتى سنة 1989.

مثل ليبيا التي شهدت انقلاب 1969.

ضمن هذا المسار العام، لا تتميز في شيء تجارب غرب العالم الغربي عن نظائرها قي المشرق. سوى في درجة تأصل أو غربة الأحزاب الشيوعية العربية، لا سيما تلك التي ولدت في أحضان الأحزاب الشيوعية في "الميتروبول"، وحدة الذيلية للاتحاد السوفياتي؛ ثم في طغيان القومية العربية هنا والوطنية السلفية هناك.

واليوم، بعد مرور قرابة نصف قرن على هزيمة 1967 التي هزت وجدان جيل بكامله من اليسار، من الشروع التساؤل حول المصير الذي آلت إليه مختلف هذه التجارب الغنية بالدروس. لماذا فشلت في تحقيق أي من أهدافها الطموحة المعلنة؟ لماذا يستعصي إحداث وإنجاح الثورة في بلدان العالم العربي؟ ثمة العديد من المنزلقات التي وقع فيها "اليسار الجديد"، وقام بتقييم نقدي لها. مثلما انكب بعض رموز الفكر الحداثي العربي المعاصر على تفسير وتحليل أسباب التأخر التاريخي في المنطقة، بتجاهل مقصود لتلك التجارب... 

ما نود إثارته هنا هو استعصاء تجذر الماركسية في المجتمعات العربية وفي الفكر العربي المعاصر، وتعذر ولوج الحداثة وروح العصر بواسطتها. نفس الشيء ينطبق على انتقاء الليبرالية من قبل رواد النهضة. ما يجمع بين الحالتين هو اجترار ذيول التقليد: القومية العربية والوطنية السلفية. باسم خصوصية ماضوية أو معاصرة، يتم تفادي الهجوم الشامل على السنة، معقل الرجعية، ولفظ المنحدر التحرري الثوري في الفكر الغربي، الليبرالي ثم الماركسي.

في الشرق الذي يهمنا، استطاعت بعض المجتمعات ما قبل الرأسمالية إنجاز الثورة، لأنها حسمت جذريا مع التقليد؛ سواء عن طريق الليبرالية مثل اليابان، أو بواسطة الماركسية مثل الصين. أما في روسيا القيصرية، فتحيل خصوصية نجاح الثورة البلشفية إلى إشكالية أخرى: درجة تطور الرأسمالية.

تبين تجربة الصين على وجه التحديد أن اجثاث التقليد هو الشرط التاريخي الأولي لانتشار الماركسية. ليس بالثقافوية، بل عبر خلق حركية اجتماعية تضع نصب أعينها هذا الهدف السياسي بامتياز...

  

 

 

 

06.03.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

06.03.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org