<%@ Language=JavaScript %>  د.سهام الشجيري مظاهرة صاخبة يسير فيها رجل واحد بروفايل جواد الحطاب أبواب مشرعة للغيم وللرصاص

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

      

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

مظاهرة صاخبة يسير فيها رجل واحد

 

بروفيل جواد الحطاب أبواب مشرعة للغيم وللرصاص

 

 

د.سهام الشجيري

 

حين قرأت ديوان جواد الحطاب(بروفيل للريح..رسم جانبي للمطر) وبعنوان جانبي مقوس (تنويعات على نصب الحرية) قفزت إلى ذاكرتي عبارة كتبها الشاعر المشاكس والانفعالي احمد مطر (مظاهرة صاخبة يسير فيها رجل واحد) المنشورة في مجلة العالم الصادرة في لندن (العدد 185) وجدت نفسي أضعه عنوان لقراءتي عنه، والحطاب في بروفايله، يستخدم أخر تقنياته الشعرية إذ يضع الـ(sng) قبالة نصب الحرية، لم يكتف بجوانب النصب ولا بزواياه المعهودة، بل غرز حدقتيه في أقحوان رحيقه المنثور على كل الوجوه المارة يوميا من أمام ضريحه، ربما استطال غضبه، هو لم يتوحد مع ذاته ويحلم، بل غرس ذاكرته في رحم ساحة التحرير وجلس يراقب ما صنعه أزميل سليم، لوحته من لحم ودم وكذلك شعر الحطاب، لم يلجأ الشاعر إلى العرافة أو فتاح الفال، ولم يلجا الى التداوي بالتعاويذ والحجب بل استأجر ذاته وامسك بإطراف إيقونة الريح والمطر واخذ يعد على سليم أنفاسه وأحلامه في لوحة تفصح عن الكثير وتخفي الأكثر والأغرب والأعجب، وهي أنفاس وأحلام لا يمكن كتمها لأنها تعرج للرائحين والغادين والجالسين والمتأملين والمتعطشين، للعشاق والسراق، (السراق:على ظهر الدبابات الأمريكية- ص9) والجياع والكسبة، للأغنياء والفقراء، للملحدين وللركع السجود، للباعة المتجولين، وباعة الصحف والسكائر والكرزات وشرطة المرور، والأمهات والبنات، الفارسات والمخاتلات، السياسيون، والنصابون، المتسولون والموبوءون والمشردون، والمدمنون، والمتسكعون، ماسحو الأحذية، حبال المشانق، والهراوات، العطارون والجوالون دون حاجة، الكونكريت والأسلاك الشائكة، المفخخات والعبوات، البساطيل،(في أفق مسنن استشعر البساطيل- ص17)، صحيح انه رسم جانبي للمطر لان المطر فوق نصب الحرية يشبه دموع الأمهات، ولان الحطاب يكتب بحجم (أربعة إرهاب) فهو انفجار مودته، سنجد بين طيات هذا البروفايل بعض هموم الحطاب وكل طيبته وعشقه، وكأي شاعر معني بتفاصيل جسد الوطن وصف ديوانه بأنه قراءته الجديدة لنصب الحرية نصب حياتنا بعيدا عن تفسيرات جواد سليم وهنا لربما التقت تفسيرات سليم مع الحطاب في بودق واحد لا يفترقان وبعيدا عن تأويل جبرا إبراهيم جبرا وربما أيضا حاول جواد أن يغرس تأويلات جبرا في بودقة أفكاره الشعرية أو القراءات الأخرى، هي قراءته المعاصرة المرتبطة بأحداث ساحة التحرير ومستجدات واقعنا العراقي الصعب، وبتواز مع شعارات الساحة يكتب الحطاب شعاراته.

*مدائح المقهورين*

كل قصائد الحطاب كائنات حية تعيش بيننا وتتحرك أمامنا، نتنفسها وتتنفسنا، وهذا الترابط بين اللوحتين، يحمل معنى ممزوجا بالوجع، وهذه الطريقة الأسلوبية في التشكيل/القصيدة، التشكيل/اللوحة تحمل جملة من الظواهر الجمالية والدلالية تفرد بها في هذه المرحلة، ولعلنا نتوهم كمتلقين بساطة المفردة اللغوية وعنادها لجزالتها، لكننا نلمس بين تلك المفردات الجزيلة، عالم واسع مكتوم بين الأحرف، يدفعنا الى التفسير والتنظير وأدلجة رؤانا وإعادة صياغة أحاسيسنا كي ندرك خلاصنا من أبوابها المغلقة التي تحاصر غموضنا وتضيق بأحلامنا الغزيرة، استثمر الحطاب ميادين التحرير في البلاد العربية كلها، كي يدخل الى بناء راهن القصيدة عاكسا بمرآته المسطحة مفهوم قصيدة المحن، ليس من خلال توريث الحدث لأجيالنا الذي نقله، المؤرخون والنسابون والرحالة والمتزلفون للحكام والصحاح، فحسب، بل من خلال توثيق محنة العلائق البشرية في هذه المرحلة من راهن البلد من خلال المحسوس من المكان ومن اللغة وتسامي عملية التفاعل بين القارئ والنص وفق بنية القصيدة التي تمثل نسقا من العلائق المتشابكة والمتسلسلة بطريقة توافقية مدركة لموسيقاها وأوزانها وقوافيها أكثر من إدراكها للفعل الواقعي من الأحداث، ليس من عناوين داخلية (يقول الشاعر) الصورة هي من ستلعب هذا الدور، اكتفى بتشريح اللوحة بأسطر غير متخاذلة، إذ يصف الباحثون  نظام السطر الشعري(نظام قصيدة التفعيلة) الابن الشرعي لنازك الملائكة، يجسد ويشخص في تمظهرات نصه الحسي، إذ يبتعد الشاعر عن رصف قصائده رصفا دلاليا تقليديا بل يقترب من معناها أكثر، يحسبها القارئ رؤاه، يدركها وفق تجانسه معها وانصهاره في بنيتها،(تكتنز القواقع مدائح المقهورين../وتستبدل الأصداف: رسائل العشاق/ بأحجار أكتافه/- ص76).

يقول يوري لوتمان في كتابه تحليل النص الشعري، (بان أي نظام يقنن الشعر لابد أن يتلقى في الأساس باعتباره قيمة ذات مغزى) أي قيمة دلالية اعتبارية ذات جدلية لا تنتهي ولا تتعارض مع ذاتية الشاعر وبراعته وتطور أدواته الشعرية التي نسجها وحولها الى قيمة تعبيرية انفعالية تستهدف الوعي باللغة كمنظور ورؤيا متنامية لتعرية الحدث والوقوف على علائمه التي توحي بالكثير، ربما كان الحطاب أكثر جرأة من سليم حين حرض المياه الباردة القادمة من السماء لتصب في قعر نصب الحرية، وربما حاول تحريك المطر باتجاه الأمل في ساحة التحرير التي حركها شباب يقض متحرك ترف ناعم كبير بمعطيات الوطن وأحلامه، وقد تكون ميادين التحرير في مفهوم السياسة منطلق للشغب وللمشاكسة، وليس مجرد إعادة النظر في الالتباس القيمي بالحياة وكينونتها وأدميتنا ومكانة النشئ الجديد في صناعة الحياة وصناعة الإبداع وتنميته بعيدا عن صناعة الجهل وتزييف الوعي.

كانت ريشة العدالة التي امسكها الشاعر وحاول فيها مغازلة ما أبدعه سليم هي بمثابة يقظة فكرية وعقائدية وقيمية عن مكانة الشاعر والفنان ومكانة الشعر والفن في التغيير وفي إحداث اليقظة، خاصة عند الذين لا يستطيعون الصبر على قراءة الألوان الرمادية التي تشيعها السياسة وينقيها الشعر من شوائبها السياسية، وهما معا يلوذان بصمت اللوحة التي دونها سليم وأعاد تدوينها الحطاب بين جسد تفاصيل اللوحة ناثرا بكل نهمه مقعد للروح وللغنيمة وللحلم المنتظر، والحطاب لا يقتنص تاريخ مصنوع من الوهم بل تراوده اللوحة على وقع الحقيقة تجعله متلائما مع الإيديولوجيات القابضة والمهيمنة والغرائبية، ونصب الحرية وحده من فتتها ووحدهم الجوادان(سليم والحطاب) حين اغرقا صدور شبابنا بالحفر في الجرح كعلاج مجتهد ليندمل، وبلغة الإعلام والصحافة كانت سلطة نصب الحرية وشعر الحطاب أكثر نقاءً وعفة من أية سلطة أخرى وكانت سلطة القصيدة واللوحة، أنبل وأنقى وأزهر من مواسم التجاذبات والترقيعات والمناكفات وصيغ الغنيمة والاستحواذ، وكانت لوحة وشعر الجوادان ذات مدلولات قيمية تحفيزية مشبعة بالتأويل والأحلام دون أن تتبلد أذهان الذين يتصدون لكليهما نقدا وتقييماً، تلك هي المفارقة التي عاشها الجوادان في اللوحة والشعر، اقتناص الحس الوجداني في ذائقة الفن وصهره وتلاقحه مع الأحلام، فبقدر ما تنوعت وسائلهم في الاتصال بالآخر بنفس القدر اقتنصوا فضاء الروح العاشقة للحياة في رحاب وطن حتى لو كان هذا الوطن معرضا للحريق في كل زمان ومكان.

*هراوات الشعر*

اللوحتان، لوحة سليم ولوحة الحطاب صاحبتا هذا الكم الهائل من الشعارات والمشانق، مثلما جذبت العدد الكبير والحالم من العراقيين بسبب التأثير المباشر لنصب سليم ذات الدلالات المعنوية والحماسية بعيدا عن التزييف بل عمد الى الإيحاءات الواقعية فيبعث بها روح التحدي والإصرار حتى تصبح ملائمة لما جد من ظروف وما استجد من حاجات للبشر ومن حقوق، من هنا وجب التعامل مع لوحة سليم وقصيدة الحطاب بوصفهما أداة تفضيلية لاختيار الحياة الأنعم دون طمس تفاصيلها الإبداعية والفكرية، لذا فأن اللوحة والقصيدة لنحاتين من طراز سليم والحطاب لأنهما عريا الوجه الوحشي للسياسة حين تطمس ملامحها، لذلك أيقظا فينا روح الإلهام لينعشا أدميتنا وليظل العشق زادهم وحرمانهم،(سنلعب../ لعبة الحكومة والمتظاهرين/ ممتطين هراوات/عصيا كهربائية هذه المرة!!ص18) وربما لمس الشاعر شظايا شوقه لكنه بقي مستسلما لحلم الرقاب التي تدلت عنوة في صولجان صهيل الخيل التي اختلطت بصهيل الأمهات اللواتي يجيدن فن الانتظار أمام أبواب السجون كما يجيدن فن اقتطاع الدموع من قزحية عيونهن ويبصرن نبع أقدامهن بين زوايا الانتظار، ذلك إنهن صغن خيوط الشمس التي تتكسر حين تبرق ومضات خيال عابر كن بانتظاره، إذ أن ملفوظات الشاعر السردية بخيلة حد التوحد مع الكلمة، كلمة واحدة تكفي لتصهل الأمهات، (تبرعت الأمهات بصراخهن الى الحصان/ فلا سلاسل تقيد الصهيل/- ص8)،(مبارك صهيلكن أيتها الأمهات/-ص10)، (حبة دمع واحدة/ من عين أم../ كافية لتعقيم الملائكة/ ص28) وفي هذه القصيدة فأن حالهن حال ملك ثاني يليق بالسيوف ولم لا فالسيف أو الرصاصة قدر الملوك والسلاطين، إذ يحدثنا الحطاب كيف اكتشف صانع السيف رقاب الحكام وكيف برق ولمع في أحضانهم واحتال على القدر وهو يغفو بين أيديهم، هنا لا يحب جواد كما العراقيون الأسماء المزدوجة لذلك حين حزت سيوفهم رقبة الملك لم ترف للرصاصة جفن فهي قدره ولعنة تطاله على العدد كيف حل ثانيا ولم نلتهم عباءة الأول بعد؟ كيف تقدست خطواته؟ ولم نرسم بين شفاهنا ابتسامة فضية تعاند الريح وتقبل أدران الماضي كلهم سواء، سنحاريب وارنمو ودفء حكايات جداتنا عن سطوتهم، والشاعر يصرخ (يمعودين/لا تجمعوا اسمين في أجسادكم/يكره العراقيون تزاوج الأسماء/حتى../حين صار لديهم(فيصل ثاني)/..قتلوه.. ص10)

صاغ الحطاب في بروفايله وتنويعاته قانون الشعر، ممزوجا باللوحة الأبدية، وأتذكر تعبير الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا(جيناتك لها ماضٍ سياسيّ، لبشرتك مظهرٌ سياسيّ، لعينيك سيماء سياسيّة)، مثكول شاعرنا في تاريخه، مثكول بالسياسة، مثكول في سريان العشق في هشيم خطواته، مثكول بالحكايات التي تتكرر كل يوم منذ الاف السنين كسلسلة متواصلة، وهو هنا يقرأ التاريخ كمسعف طوى اخر جراحاته ليلحق ببعض نبضه وهو يداوي بقاياه، وهو هنا يرسم التاريخ دوائر دوائر فوق رؤوسنا المتصدعة بالأخبار والتصريحات المتسارعة والمتصارعة مثل دخان سيكارة خاسر في الدمينو او قصة عشق في قطار يمضي او بكاء لناصية قصيدة او عبرة فنان في مسرح متجول هل كنا كذلك؟ ريثما يجيبنا جواد يتحدث عن الهامه بالأسماء والمدن والأبواب، ريثما يتلصص عبر نافذة لوحة البوح يعري التاريخ في صناديق محمولة الى مقبرة معبئة بالأنين، يسحق أوجاعنا بلذة الانتظار، ويصنع من نشوة المفردة البكر شيطنة شاعر يجيد اللعبتين معا، لعبة الحب ولعبة الألم وصناعة الحزن والغياب كقديس يطاوع أنامله على بسط الحسرة ومد الكسرة بين أضلع الكلمة والحرف، حركة لغوية وكسرة الوطن رسمتها رؤية الشاعر وتمحصه، ولنا أن نتساءل، كيف استطعت أن تصنع من أبواب الوطن آهة للصدور العاجزة؟ مايشبهك إلا قصائدك!! أعدها مآتم وتحسبها آهات متراكمة وكأنك تلفظ عبرتها، كأني بإخوة يوسف يصرخون بوجهك (مالك لا تؤمنا على يوسف)، ألا نتأمن على وطن يمشي برجلين وعين واحدة؟ كيف رسمت الوطن على خارطة لوحة؟ وكيف قبضت بأصابعك العشرة أبواب مشرعة للشعارات؟ متى يندى جبين التاريخ من قصائدك؟ فيما لا نترقب أحد حين نصوغ الغايات لكننا نرقب آهاتنا بين رشح حكايات عابرة لا نتسلى بها بل نجمع في صيدها آهاتنا لنتلوها حين نرغب أن نصمت وان (ندوخ) أو نغرد، وان نتهشم ونغيب عن الوعي، إذ ينبئنا البروفايل، بقايا وطن طبعت على جبينه النواميس أنفاس قناديل خالية من زيت الحرمان، تلبس شعاعا لا يتوهج بل يستطيل في أعناقنا كالحريق، قصائده أثملت أوجاعنا وردمت آهاتنا الجائعات، وأخرست صمتنا، وقضمت وقتنا ورمت بقايانا في أخاديد الأيام التي تلوح لنا من فائض رغبتها، ونبقى كم بقينا؟ وبقيت ساحة التحرير، وكم طردنا من خطواتنا مسرات الأنهر؟ واجتزنا عبرات اللاهاث وهو ينزلق من أصابعنا كي يحمل الحلم دون مقابض تثقب جدران الندم والأسرار وهي تعانق صوته وظله وعباءة روحه البريئة،(تركوا العراق في غرفة الإنعاش/وانشغلوا بالقسام الشرعي/- ص30)، (كل يحمل نعشا/ ويناديه وطني/- ص32).

*أبواب في جسد التاريخ*

حين منح الشاعر اللوحة دواة حبره، شاخصاً بصره، تأملها بلهفة، طغيان ذاكرته وسياطها وآثامها، وكل شئ علق بأذيالها، ولا تشيخ كما لا يشيخ نحيب المطر وهو ينزلق على تضاريس وجه اللوحة، قصائده، قراءة أخرى للفاجعة، وهي تلامس صباحات المطر فوق نصب الحرية، هو ما غرسه الشاعر على شاشات ذاكرتنا، خرجنا واحدا واحدا ونزل المطر قطرة قطرة من رحم أبواب بغداد، ارتطم الحطاب ككل عراقي بباب السياسة، لكنه ارتبط مع أبواب فيروز التي طرقتها والتي فتحتها بأكثر من عشرة أغان عن الأبواب(لما ع الباب ياحبيبي ودعتك) و(أبواب أبواب شي غرب شي أصحاب شي مسكر وناطر دا يرجع الغياب) تختار فيروز باب العذاب وباب يغرق في رائحة الياسمين، لكن الشاعر يختار باب الآه، وكالملتاع وموجع بالحنين يضوع مثل قلب أم تمنحه أمومتها، (تحرش) بالمطر يرمق لوحة سليم لكنه لم يخدش حياء اللوحة من حبال المشانق ولم تهلكه تضاريس أوجاع المعوزين، بل تداوى برموزها وغسل أدران الحروب بتأويلاته، وعقد شروق شمسها على مقربة من لظى أقدام المارة ليفك شيفرة اللوحة تحت المطر، هل هو نصب جديد نحته الحطاب في ساحة الشعر بعد أن رأى أن نصب سليم صدعته النوائب والأوجاع والعوز والعجز بكل تاريخ العراق وجغرافيته؟ حين يدخل أبواب بغداد..يأز الهواء في صريرها، يدخل باب الشام ويصمت، يخرج من باب الكوفة صامتاً ويولج باب البصرة وباب خراسان ويجر أبواب كلواذا والظفرية وباب السلطان وباب الطلسم لكنه يقترح بابا واحدا ترمقه أنفاسه وتستنشقه عيونه كل حين، (باب الـ آآآآآآه) ومثلنا جميعا يرى الحطاب نفسه على صليب التاريخ يعصف ذاكرته ويحولها الى صرخات عميقة. (كان لبغداد أربعة أبواب:باب الشام/ باب الكوفة/ باب البصرة/و...باب خراسان/ لبغداد أبواب أربعة/ باب كلواذا، باب الظفرية/ باب السلطان/ و..باب الطلسم/ الآن لبغداد باب واحد/ باب الـ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه /- ص12-13)

انا هنا لا أتحدث عن قصيدة عابرة او ملمح شعري يختلف او يتفق عليه النقاد لكن بروفايل الحطاب ذو تأثير قيمي في المشهد الشعري او راهن القصيدة، لكنها قراءة لراهن وطن حلق شدقيه بأيدي أبناءه كي لا تجوع الابتسامة من بريق عيون أطفاله، وحبس فيض لوحاته بمسمار النسيان كي لا تبتسم الشوارع والدروب والساحات دون قيامة خاصرة الشبان وهم يحتضنون رايات يلفونها فوق أجساد اللوحات والنصب والتماثيل لعلها تنطق ذات موسم، بأحرف الشاعر شيدوا خيوطها من البصر والبصيرة حين رسم لها خرائط لحوافر خيلها ونثر صهيلها وشرع نوافذه بوجه المطر، وبصمت غارس فيض نبضه بين ثنايا اللوحة، يجلس خلف كواليس الصباحات لينقذ ذاكرته من إثم الأبواب وهي تفتح وتغلق رحم الأرض من تحت قدميه، لكنه يعود ليقول(ينأى لنا باب كلواذا/ باب خراسان أم الشام؟ باب الشام/ وسيان كل الطرق/ ما دامت العربات/..لن تغير حدوات جيادها/ في باب كلواذا/ - ص55).  

يفترش الحطاب حروفه ويتكأ على اقتناص اللوحة، يده ربما ترسم جلبابه خيوط سومرية ذات ألوان قرمزية تشبه (شيلة) أمه التي غزلت من شيطنة الحطاب بعض من عباءة طيبتها، رماد أوراقه، انتفض مرتين مرة داخل روحه الشفافة الصادقة وأخرى تحت نصب الحرية وهو يخرج من ثقوب تفاصيل اللوحة ليدخل في عيون التاريخ بقلم ودواة وأغنية، حبس أنفاسه وهو الحر بين حتفه وحلمه، حاول لمس حتفه وغازل مس روحه، حطم التاريخ الذي يدب تحت جلودنا مثل الذهان بجمل ناعمة ينحرها بين ضلوعه المتورمة من الانتظار، وبكاء جلده حين مد كلماته بين خلايا اللوحة، وهو يتلو آيات فوق جبين الصمت، يغوي الساعات اليقظة صوب غيوم  أجفانه حين أيقظ اللوحة، وداهم الساحة، حاله حال جواد سليم حين مزج المكان مع الألوان والخطوط بتجانس وتحاور مع الحكايات التي صاغها وطرزها وغذى بها ساحة البقاء وهو يبحث في ثناياها عن يوم ابيض،(فمن أين سنستأجر أياماً بيض وهمرات /فتاوى/الأحزاب - ص14).

التقت هنا، شذرات الشاعر والتشكيلي في جسد التاريخ وانهالت كالسريان في وهج السنوات، ربما تثلم عصا روحه بريق سيف السنابل لكنها حتما لن تقوى على لي ماسته، كلنا جسد يتوهج والوطن والحطاب جسد ينثلم، لا لأنه يقيس حصى التاريخ بقطارة تعقيم جروحه بل لأنه يجوس نبض حروفه قبل روحه، ويؤسس الحطاب معمار قصيدته وفق ما أسسه سليم من معمار للوحته، لان الأشياء لا تكون شاعرية إلا بالقوة، كما يقول جون كوهين في كتابه (بنية اللغة الشعرية) فان على اللغة –من خلال الاقتصاد- أن تنقل هذه الشاعرية  من القوة الى الفعل، إذ تتسم قصائد الحطاب باقتصادها اللغوي وجزالتها واختزالها وايجازها وتكثيفها، ادركا منه بان نصه الشعري ذو فاعلية أقوى حين يبعده عن الترهل والزوائد اللغوية والشاعر هنا تستدعيه ذاكرته، وأجد الحطاب بخيلا ليس لأنه يجوع في زمن اليباس ويجف بمعوله مساحات الأمل في الخلاص بل لان حرفة السياسة لا تشفي غليل جوع المتعطشين للحرية، (نرشد الحياة/ إلى الحياة/ أو...نوقظ الأضرحة!! - ص44).

أغبط لوحة سليم لعشقها للحرية وأغبط شعر الحطاب لأنه يوقظ عشقنا المؤجل للحرية، بالرغم من أنهما ينسيان أنهما مصلوبان، ومعلقان بين اللوحة والقصيدة، لكن بصر الحطاب وبصيرته ما زالا يسمعان الحكايات من أفواه شخوص اللوحة ربما بسبب عناقهما الأبدي او بسبب طفولتهما معا التي تحاول أن تعيد صياغة اللقى والرقم كضفيرة مع الإنسان، (من يزن الصرخة في ميزان الألم- ص25).

والجوادان فنانان حساسان ومعلمان للحياة، يعلمان أن اهانة الحياة تبدأ بانتزاع أدميتها، ولا تنتهي لان مهمة المبدع أن يرسم مع الناس خطواتهم، والإبداع حياة وحضارة، والثقافة سلوك ومبادئ والإبداع هو الاستجابة لمتغيرات الحياة والأحداث، شعر الحطاب رفض البيانات الحماسية في صناعة الوعي وغرس شجبهما، لذلك حشد  الناس الطيبين بعيداً عن البحث عن صفقة مثلما صان سليم لوحته من التلوث رغم قهر البيئة وطقس الحرمان مثلما صان الحطاب قلمه على حذر من صون الوطن كوسيلة لاقتناص الحق في أقدار الأوطان وعشق البسطاء الذي يبدد سحابة الحرمان، وحتى لحظة الكتابة امسح ذرة غبار قد توهن لوحة سليم بفعل قسوة الطبيعة، لكنها عصية أن توهن قصيدة الحطاب، ولو بفعل السياسة، لأن ذاكرة الحطاب دونتها الحروب والشظايا، العبوات والمفخخات والشعارات والتصريحات، وتموقعه تحت نصب الحرية لهو البيان رقم واحد للانطلاق نحو الحلم خطه شباب ناصع وقراه الحطاب على مسامع الجمهور،(تنموعلى النايات/ساعات حظر الليل- ص48)، الشاعر السارد/الشاعر المؤرخ، يقلب التاريخ، ينثره على جبينه من جديد ويضوع بين جنبيه حصاد أحلامه على أضلع المدينة والساحة يعيد لنا ذواتنا يستحضر الوجوه والشخوص والأنفاس والعمائر والمفردات والمكتبات والكتب والرقم واللقى والأساطير والأبواب والجوع والحرمان والعطش، كلها تجربة الشاعر الذي عاش راهن المحنة وتفاصيلها، إذ يتم تشكيل بناء الجوهر الدرامي للصورة الكلية بالاعتماد على عناصر التعبير الدرامي وسرد قصصي في البناء الشعري ليتمكن من تمثيل الحالة الواقعية، وقد استخدم الشاعر بناء صورة متعانقة متمازجة مع بناء جوهر الدراما هي تقترب من مشاهد الواقع في فضاء التواصل بين المرسل/الشاعر والمرسل إليه/المتلقي، (من بيرسي كوكس/إلى بول بريمر/- ص21) وباقتضاب يصرخ:(ما فائدة النياشين على ملابس القتلى- ص46).

*بين الأسئلة والأجوبة*

يقول: ت. س. اليوت في كتابه المدخل في النقد الأدبي (أن القصيدة  تقع في مكان ما بين الكاتب والقارئ) وأقول أن القارئ هنا وقع بين شعر الحطاب ولوحة سليم، واللغة الشعرية لا تتحدد إلا من خلال وظيفتها البنائية داخل القصيدة وهي وظيفة مزدوجة ترمي من جهة الى التواصل بحملها مضموناً ما وتهدف من جهة ثانية الى التأثير الجمالي والنفسي على المتلقي، وشعر الحطاب هنا مثل عريشة الياسمين لا تكتفي بان تظلك، بل لا تتركك إلا معطرا بعبيرها، (من يملك الإجابات/ سيخسر حكمة الأسئلة- ص70)، والحطاب شاعر خطر في راهن خطر متداع على بناءه الشعري والفني والعقائدي وهو راهن يفصح عن تناقضات رسمها الحطاب ببراعة في الخريطة الشعرية من تجارب ومواقف وإيديولوجيات تتصف بالتدفق اللامحدود لمن أراد أن يؤرخ لتاريخ المحن والمصائب، هو لا يتنبأ بنبوءة لا تتسق مع الواقع بل تفصح عن شرارة الوجع وتؤشر شغف الشاعر بتفاصيل وجعه وهو وجع اللوحة والساحة والشارع والوطن بالضرورة، إذ يقول:(اجلس عند مفترق الهتافات/ تحيط بي النوارس/ وتصنع لي الأمواج/ حساءًً بارداً.../من خشب وغرقى/- ص82)، أن القارئ سيرسم الوجع مع الشاعر، ويدلف فيها ويرصد نثيث المطر، إذ حاول أن يطعم تدفق مفرداته بطهر وعيه الشعري بمبراة: (أنى يكون لي قرين/ ولم يمسسني نحات/- ص60)، وحين يلخص قدرته على تطوير أدواته الفنية والجمالية يعلن عن قدرته كشاعر وليس قدرته كإنسان فقط فيقول عن جسر الجمهورية:(المتختم بالأمواج../متعهد إيصال الطلبات الى المتظاهرين../- ص77) وحين يغوص  القارئ في عوالم القصيدة الداخلية بنقاء بصيرته يكتشف مجاهيلها، والحطاب هنا لم يكن تسجيليا تقريريا لأحداث ساحة التحرير بل يصوغ تأملاته كلوحة شعرية تتمسك بتقاليد الكتابة وتنضح من مخيلة الكاتب وشعوره تجاه الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يرمي بضلاله تحت تأثير داء الاحتلال وترف حساسية وجمالية الشاعر، إذ برز الحطاب شاعرا في زمن شهد الكثير من الأحداث المتلاحقة، فهو ابن المحنة لذلك يدشن كل ديوان بآلة التطهير لفيروسات المحن التي عاشها ورسف  تحت قيودها في فراديس الدهشة التي تحدثها قصائده في ملمح متفرد، وفي تشكيلة بصرية محسوسة وفق أسس البناء الفني، ثمة ما بين محنة ومحنة وعي ابيض يمد جسوره في نص الحطاب ويمسح سالف ترابه بعمائر الشعر مشفوعا بالملاحم، مستفيضا باشراقة وأناقة عباراته، مستحضرا وجه العراق، وجه بغداد، وجه أمه، وجوه حبيباته، وجوه أولاده، وجه ساحة التحرير وهي تدق أنامل جواد سليم في رحمها المتأنق دائما لولادة جديدة، إذ يحفر خارطة مؤطرة للوطن تمثلها ساحة التحرير، التشكيلة الشعرية التي بناها الحطاب  تحت نصب الحرية تواءمت مع البناء العضوي للساحة والشارع والجسر، كله وحدة واحدة لا ينفرط عقدها ولا يتزعزع ملتمسا من بناء الملحمة وحدة المفردة وإيحاءاتها ومواصفاتها المتفردة مما يجعل قارئ القصيدة متأملا، بل منشدا على إيقاع تلميحاتها وليس تصريحاتها وهوهنا كشاعر لا يخرج عن محنته ولا يتناقض معها ولا يصادرها ولا يقاومها بل يدفع مفرداته كعامل حاسم في بناءها ووحدة معناها، تقاذفته الكلمات القصيرة لترميه في معاني طويلة، كما أن خياله لا ينظم القصيدة، بل مقاصده التي تكتب بتجانس وتلاقح وانصهار مع الواقع، وهو هنا يصطاد تصوراته بنفس فعل اصطياده لمرارة المحنة، لأنها جزء من البناء الفني للقصيدة التي تتشكل بأنساق متوازية وذهنية واعية تغوص في تالف وانسجام في المنظومة اللغوية والمنظومة النحتية وكلاهما ينطق بإصرار، هو لم يقع تحت تأثير الأدب الشعري المنحوت من أساطير شعراء آخرين بل لبس جلباب معاناة متفردة واخذ يقطف ثمار الكلمات غصنا غصنا حتى باتت قصيدته محشوة بالأمطار والرعد والبرق والصراخ وخالية من الكلمات إلا النزر القليل دون أن تعلن ذلك على الملأ، بل اختصت نفسها بالكلمات، بعضها لا يتعدى ثلاثة أو أربعة، ترويج لمحنة بلد غاب عنه السؤدد؟ أم خيال تحررت به أحلام الحطاب؟ أم عاطفة تعرت بين أصداف ذابلة إلا من موج المطر، (مدعوماًً بالتماثيل/ لبس الحلم بالمقلوب/- ص67) هي كل تلك المتغيرات التي طرزت الأدب العراقي باللبنات الحداثوية وأفرزت البنيات الشعرية المتفردة في علائق وانساق قلما نجدها في مرحلة من مراحل الشعر سواء في أيام المحن أو أيام الترف القرمزي، لتأسيس مناخ القصيدة الفضائي وفق مدارك الحطاب شعرياً هي التي حفزته أن يلج الرؤية التشكيلية والشعرية معا، كونه يتغلغل في روح الواقع، كتجربة وتأمل وهو ما أمكنه من أدراك غايته.

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا