<%@ Language=JavaScript %> نوري جاسم المياحي شناشيل طفولتي

 

 

 

شناشيل طفولتي

 

 

نوري جاسم المياحي

 

الذكريات كما تعلمون صدى السنين كما يقال ...والذكريات كما نعلم جميعا لا تأتي عندما نشاء ومتى نشاء وانما تسترجع كصور مفاجئة وسريعة في فكر وذهن المتذكر تحت محفز ما ..كخبر يقرؤه او صورة يراها او قصة يسمعها ..او كإجابة على سؤال مستفسر او مرور بحادثة ما او مقارنة بموقف حياتي ما يتكرر على المرء في السراء والضراء ..ولاسيما أيامنا هذه الأيام البائسة فقد أصبحت الذكريات لجيلنا هي ينبوع السعادة ... وانطلاقا من المثل الشعبي الشائع عند العراقيين ( أذا ضامك الضيم تذكر أيام عرسك )

 واليوم ساكتب عن صورة بسيطة من صور الحياة التي وعيت عليها في طفولتي بالأربعينات من القرن الماضي وقد تكون الذكريات لمواقف بسيطة وبريئة ومتواضعة ولم يعطها الانسان أهمية في ذاكرته وقتها ..

وكمثل على ذلك ...بالآمس قرات خبرا يتحدث عن كنيس يهودي بني عام 1920 ويعتبره الناشر من الأبنية التراثية المنشأة في بغداد ...ولفت انتباهي ليس الموضوع وحيثياته وانما تاريخ البناء ...لان التاريخ ليس ببعيد عن تاريخ بناء دار ابي التي بناها عام 1922 أي بعد سنتين وولدت فيها ...والذي المني اكثر اننا كعائلة لم نحافظ على دار ابونا  وباعها الورثة باخس الأسعار ولأسباب ماديه تافهة ..عندما زرت المحلة عام 2003 وبعد الاحتلال لأجد الدار قد غيرت معالمها بالسمنت الملبوخ جدرانها وطمست قيمتها الجمالية والتراثية البغدادية الاصيلة ..بسبب الجهل والطمع عند من باعها وعند من اشتراها وحولها الى مخازن لقربها من شارع الرشيد ...وما زاد من المي وحزني ما ال اليه شارع الرشيد الذي كان يزهو بدكاكينه ومعالمة الحلوة أيام طفولتي وتحول الى مكب للنفايات ومحلات تفسيخ السيارات .. وا اسفي عليك يا بغداد السلام والمحبة .. وبعدها اقسمت يمينا ان لا امر بشارع الرشيد ثانية ...فزيارة القبور ارحم من زيارته.

عندها تذكرت بيت ابي في محلة المربعة الذي ولدت فيه والذي بني عام 1922 ..وان سأل سائل ..كيف عرفت انه بني بهذا التاريخ ..؟؟ فأجيبه .. عرفت ذلك من الشاهد المثبت بالطابوق المنحوت فوق مدخل الدار ...لانه كان من عادة أهالي بغداد يكتبون وبطابوق منقوش تاريخ البناء وبزخرفة جميلة وبخط جميل على الباب الرئيسي للمدخل...واذكر انه كان بيتا كبيرا (نسبيا) ومبني بالطابوق ومن طابقين ( أي دبل فاليوم كما يسمى اليوم ) ..

واذكر ان بيتنا كان يشرف على ساحة او فضاء وكانوا يسمونها آنذاك (الفضوة) ..حيث كنا نلعب فيها ونحن أطفال ...وهنا تذكرني حادثة مؤلمة تركت اثارها حتى يومنا هذا ..وانا في نهاية العقد السابع من عمري ..

في ضحوية (من الضحى) احد الأيام كنا نلعب في الفضوة انا وبعض أطفال المحلة واذا بصرخة (عيطة الم وبكاء) من الطفل حسين ابن ناجي المختار ملئت الدنيا ..فتراكض الفتيان وشباب المحلة لمعرفة السبب ..فاخبرهم انه مد اصبعه في زرف بين الطابوق (ثقب او شق ) في الحائط وعضه شيء ما ..

المهم بعد فترة وجيزة ساد المحلة جو من الحزن وتناقلت الانباء ان حسين ابن المختار قدعضته الحية ومات ..وهكذا اختفى من شلتنا زميل طفولتنا في اللعب والى الابد ..

وها اذكر في عصرية (من العصر) ذلك اليوم ..كان احد شباب المحلة راكب البايسكل ( دراجة هوائية ) وبرط خلفه على السيباية (مقعد خلفي ) حية ميته و(يفتر) يتجول وكأنه فرحان ويقول هذه الحية التي عضت المسكين حسين ...وان انسى فلن انسى ذلك المنظر ...وبحكم الطفولة وهول الموقف ...فأنا دائما أتذكر ذلك المنظر وتلك الحية الملعونة وكأنها ضخمة وبحجم التاكواندا التي شفناها لأول في أفلام التلفزيون ..اما في الحقيقة فلم يكن طولها يتجاوز 80 سم ..

واعود لبيت الطفولة الذي ولدت فيه ..والمشهد الذي يصادفك بعد عبور الباب الرئيسي ما كان يسمى بالمجاز وفي هذه الأيام يسمى ( الكلدور ) وفي البداية وعلى يدك اليسرى ( بيت الخلاء الشرقية ) أي المرافق الصحية وهو مخصص عادة للخطار .. وفي النهاية المقابلة للمجاز توجد باب تنفتح على غرفة الخطار ( الضيوف ) المفروشة جيدا وفيها طقم هندي كما اعتقد من قنفات وكراسي خشبيه منقوش والقماش من قماش القديفة الملون باللون الأحمر الزاهي (كما كان يسمى آنذاك) ..وفي الغرفة باب ثاني يطل على الحوش ( وهو باحة تتوسط الدار عادة في البيوت الشرقية ..واذكر جيدا ان في وسط الحوش كانت تنتصب نخلة شامخة وكما حدثتني امي انها بقية حديقة داخلية تتوسط الدار وكانت فيها أشجار احداها سدرة ( نبق ) وقد ازالها ابي وحولها الى حوش واستخدم الطابوق (الفرشي) لتربيعه (تطبيك الأرضية ) وفي وسطه بالوعة واذكر ان فتحة البالوعة كانت عبارة عن طابوقة فرشية مثقوبة بالوسط لدخول ماء المطر في الشتاء ومياه غسل البيت غسل البيت والملابس أيام الصيف .. وقرب النخلة كانت توجد حنفية ماء وحوض صغير مبني من الطابوق ..

اما واجهة غرفة الخطار المطلة على الحوش فكانت عبارة عن شبابيك خشبية ومزينة بالزجاج الملون ..واحلى ما فيها  انها تتكون من جزئيين احدهما متحرك والأخر ثابت ...وعندما تريد فتح الشباك ترفعه للأعلى ..وكانت تسمى بالشناشيل ..واذكر جيدا ان الشناشيل وشبابيكها المزينة بالزجاج الملون ( الأحمر والازرق والاخضر ) تشعرني بالراحة والارتياح ومنذ الطفولة ..وحتى غرفة عمتي المطلة على الفضوة والزقاق فقد كانت محاطة ومن ثلاثة اضلع تقريبا بالشناشيل

 وهنا لابد لي من الإشارة الى ملاحظة اعتبرها مهمة من الناحية المعمارية وهي انك تصعد درجات لكي تدخل للبيت ..اي ان مستوى الدار اعلى من مستوى الفضوة او الزقاق او الشارع ..كي لا يغرق الدار في موسم الامطار .. أي ان الدار عموما مبني على عدة مستويات (لفيلات بالانكليزي)

واذكر ان الطابق الأرضي لا يوجد فيه غرف نوم وانما كانت توجد مثل الغرفة الكبيرة تستعمل كمطبخ ومخزن وفي داخلها حمام شرقي ومنزع كي لا يخرج المستحم مباشرة الى الهواء. وحتى لا ينشلون (يصلبون بالبرد) وحتى كانوا لا يعرفون اسم الانفلونزا بانواعها المعروفة هذه الأيام ...

والى جوارها كانت فسحة مفتوحة على الحوش سقفها مرفوع بأعمدة خشبية جميلة كنا نسميها (دلكات) وهذا الفسحة كانت تسمى بالطرار ...وايضا مفروش بالتخوت الخشبية ويستعمل للجلوس والراحة والنوم صيفا والى جواره الدرج الذي يصعدنا الى الطابق الثاني ..

والى جوار الدرج كانت هناك باب تؤدي الى ما يشبه الغرفة الكبيرة وكانوا يسمونها البيت (ولا ادري معني هذه التسمية ولماذا) لأنني عندما وعيت عليها كانت مهجورة ...وفي احد جوانبها يوجد منفذ ودرج ينزل الى السرداب واذكر انه في السرداب كان يوجد بئر وكان الكبار يحذروننا ويخوفوننا من النزول الى السرداب كي لا نقع في البئر او تعضنا عقرب... رحمهم الله كانوا يكررون على اسماعنا والى درجة زرعوا في نفوسنا الرعب من السرداب ( ديروا بالكم ترة السرداب متروس حياية وعكارب ) أي افاعي وعقارب ..

وان انسى فلن انسى غرفة امي (رحمها الله) التي كانت اكبر غرف البيت وواجهتها ذات الشبابيك الخشبية وزجاجها الملون المطلة على الحوش وطارمتها الطويلة والضيقة (ممشى ولايتجاوز عرضها المتر) والمحجرات الخشبية المزينة بشيش الحديد المزخرفة .. التي تحمي الأطفال والمشاة من السقوط في الحوش ..

اما سقف الغرفة فكان سقفا ثانويا رائعا وجميلا ( كما يسمى اليوم ) مصنوع من الخشب على شكل الواح مرصوصة على شكل البقلاوة وفي الوسط طرة مطعمة بزجاج ملون ..وعندما كنت العب على السرير المعدني اللامع بلون الذهب الأصفر الوهاج ...واتمعن بالسقف وابداع النجارين والبنائين آنذاك ولاسيما وان معظم الجدران وحتى السقوف كانت مزينة بشكل فني ابداعي وبنفس الطابوق ..وحتى السقوف المعقودة كانت بفن ابداعي راقي ...الى درجة  ان أسماء البنائين كان يضرب بهم المثل آنذاك ...كان تسمع احدهم وهو يتباهى ان بيتي بناهم البناء ( فلان ابن فلان ) من منطقة الفلاحات او كهوة شكر على سبيل الأمثلة الجارية وقتذاك ..

ولكي اكمل وصف الصورة ...فان ابي قد توفي عام 1949 ويقال عن عمر تجاوز الثمانين ...وكذلك لحقت به بسنتين اصغر عماتي التي وعيت عليها والتي وصفت غرفتها أعلاه ...ايضا توفيت وقد تجاوز عمرها الثمانين والبعض يبالغ ويقول انها تجاوزت التسعين ..اي كلهم كانوا من المعمرين ...والسبب ان حياتهم كانت بسيطة وهادئة وليست معقدة كحياتنا هذه الأيام الكئيبة والحزينة ...وبالرغم من اعتمادهم آنذاك في اكلهم وشربهم على عادات صحية يعتبرها أطباء اليوم تفتقد الى ابسط الشروط الصحية بينما التاريخ يثبت عكس ذلك ..مثلا جل طعامهم كان يعتمد على الدهن الحيواني الحر والزبد والتمن العنبر ...بينما اليوم نعيش اكبر كذبة في طعامنا ..تجنب هذا وحرم ذاك ..فهذا يسبب السكر وذاك يزيد الكولسترول ..وهذا يصلب الشرايين وذاك يسبب الجلطة والسرطان ...وترى الشباب يموتون جماعات وافرادا ..بأمراض ما انزل الله بها من تسميات ..

الذكريات بحور يعجز المرء من سبر اغوارها ...ولكن في تدوين بعضها على قلته قد يفيد من يأتي بعدنا ..  رحم الله زمان اباءنا واجدادنا كانت بسيطة سهلة وبريئة فلا فيها طمع ولا حقد و لا كراهية او فتن طائفية مذهبية .. وانما كلها محبة واحترام وحنية ...

اللهم احفظ العراق وأهله أينما حلوا او ارتحلوا

 

 

 

 

 

 

تاريخ النشر

12.03.2016

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

12.03.2016

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org