<%@ Language=JavaScript %> عارف معروف أمــــــيّ لا تعرف البكينــــي ....

 

 

 

أمــــــيّ لا تعرف البكينــــي ....

 

 

عارف معروف

 

 

تنُشر على مواقع التواصل الاجتماعي ، كتابات وصور ومقاطع فديو تتضمن مقارنات بين مجتمعنا و مجتمعات اخرى ، غالبا في اوروبا الغربية او امريكا. فترى ، مثلا ، صورة لرجل متوسط العمر، يرتدي بدلة رسمية ، وهو يمتطي دراجة هوائية ، ليقول لك ، صاحب البوست ، في التعليق المرفق بالصورة ، ان الرجل هو وزير المالية البريطاني ، وان هذه الدراجة  هي وسيلته الوحيدة  للوصول ، يوميا ، الى مقر عمله في مكتبه المتواضع ، بوزارة المالية . واخرى لرجل آخر في الاربعينات ، يرتدي سترة سبورت عادية وبنطلون كتان غير مكوي ويقف في طابور طويل لشراء الخبز، ليقال لك ، في هامش الصورة : ان الرجل هو رئيس وزراء السويد ، او هولندا ، او بلجيكا . وثالثة لامرأة فتّية تجلس الى مدرجات بناية وهي تنظر في اوراقها ، ليقال انها رئيسة وزراء الدولة الاوروبية الفلانية وانها تفترش مدرجات مبنى رئاسة الوزراء لأنها تصل  باكرا وقبل افتتاح الوزارة ، من فرط حرصها ، لتراجع اوراقها في الدقائق الاخيرة قبل ان تلج الوزارة . وربما انتهينا الى اسفاف واضح ونحن نطالع صورة لأنثى مليحة شبه عارية على شاطئ بحر ، لنقرأ انها رئيسة الدولة الغربية العلانية، وغالبا ما يتطور الامر الى عقد مقارنات بينها ، وهي الشابة الشقراء المثيرة وبين ما لدينا من نساء " غالبا ما يكن برلمانيات مثلا " ، لا تثير اشكالهن سوى الرثاء ولا تستدعي وجوههن غير الهّم والغّم .

يمكن ان تصدر هذه المقارنات عن فتّية متحمسين ، او رجال ممن يحسبون انفسهم  على الثقافة والنشاط الفني والثقافي فيما يسمى بناشطي مواقع التواصل الاجتماعي ،  كما يمكن ان يكون مصدرها والمرّوج لها ، جهات اخرى ذات مرام ابعد . لكنها ، في كل الاحوال ، لا تصّح ولا تخدم ولا تعبر عن معرفة ووعي ، ذلك انها تتجاهل ، على افتراض صحة كل ما تقدم من امثلة وكونه قد جرى ، توثيقه بالفعل ، في مجرى الحياة اليومية ، وبصورة عفوية خالية من الغرض حقا ، ان هؤلاء الاشخاص ، اعني الوزير المتواضع ورئيس الوزراء الاكثر تواضعا والوزيرة المتفانية والرئيسة الجميلة الرقيقة  ، هم افراز لوضع اجتماعي معين ، ثمار لبنية ثقافية وقيمّية محددة  ، كانت بدورها نتاجا لتطور تاريخي طويل ومجهد تضّمن تضحيات جمّة ، ولم يأت من فراغ او بين ليلة وضحاها ، كما ان له قوانينه الضابطة واعرافه الناظمة واجهزته الرقابية اليقظة . وان الامر لا يتعلق ابدا، اوانه متروك بالمطلق، حتى في تلك المجتمعات ، للأخلاق والدوافع الشخصية لهذا الوزير او السجايا اللطيفة لتلك الوزيرة . فهُّم جزء من نظام اجتماعي وسياسي وثقافي، يرتكز الى بنية اقتصادية ينبع عنها ويتفاعل معها . انهم ، في الواقع ، ليسوا سوى اجزاء صغيرة ، "براغي"  كما نقول ، من " سستم " ، آلة اجتماعية كبيرة مترابطة ومتفاعلة تشتغل وفق برنامج اجتماعي عقلاني ومحدد بحاجات وغايات . واذا شئنا ان نكون على مثل ما هم عليه او قريبين منه اوحتى  افضل ، فذلك ليس بالمستحيل ولا المعجز ، فأنه لا يتم بأن يتوفر لنا مثل هذا الوزير او الوزيرة فقط  ، او يهدي الله من يشاء من مسؤولينا الى سواء السبيل فينهض في يومه التالي وقد عزم على ان يقتدي بأولئك الاشخاص ويترسّم تلك الامثلة . ذلك انه ، هو الاخر ، نتاج بنية اجتماعية وسياسية ومنظومة قيم وثقافة محددة  ومختلفة وقد اتاح تدهورها الى الدرك الذي نشهده الان ، صعود وتسّيد فئات واشخاص ، واشاعة قيم وممارسات ، ما كانت حتى بيئتنا ومجتمعاتنا تتقبله قبل عقود  ، لكن هذا الامر ، لم يكن وليد صدفة ، او كارثة حلت بنا في غفلة من الزمن ، كما يحلو للبعض القول ، او اننا نعيش اليوم " زمنا رديئا " بعد ان فقدنا " الزمن الجميل " !

 ليس هناك غفلة من الزمن ، كما لا يوجد زمن رديء اغبر وآخر مثالي  وجميل ، كل هذا تخدير للعقل وتغييب للوعي  وهروب الى الامام من المسؤولية وتقاعس عن اداء الواجب او اقل القليل من الواجب ، لا اتجاه المجتمع والوطن او الشعب ، تلك الكلمات التي قُتلت من كثر التزييف والادعاء والتي باتت محل شك وتوجس من قبل البعض . ولكن من اجل النفس ، الذات والعائلة ومستقبل الابناء ودائرة القرابة الاقرب والتي هي جزء من كيان اجتماعي وبيئة محلية تكون ضرورية ولازمة لنا مثل التربة والهواء وضوء الشمس بالنسبة للشجر . ان كل ما حصل ويحصل ، لدينا ، هو نتائج وافرازات او انعكاسات لسيرورة اجتماعية معينه يمكن متابعة تدهورها الاشدّ منذ بضعة عقود وقد افضت ، اخيرا ،  الى التلاقي او الاصطدام مع تطورات عالمية تمكنت فيها قوى الهيمنه  العالمية ومصالحها الانية والبعيدة من استباحة هذه الاوطان وتفكيك هذه المجتمعات والعودة بها الى عصر ما قبل الدولة الوطنية والمجتمع الموحد لتحولها الى ساحة حرب تستهلك الاسلحة وتسيل الدماء ومباءة فساد غير مسبوق  تبعثر الثروات وتضيع الطاقات .   

ان الانبهار بكل ما هو غربي او ما كان يسمى بعقدة " الخواجة " ليس بالأمر الجديد فقد شاب نظرة الكثير من المثقفين والمتعلمين والسياسيين شيئا منه طوال القرن الماضي ، ولطالما عبر عامة الناس عن عمق الهّوة التي تفصل بين واقعنا المتخلف وما يعيشه العالم المتقدم على مختلف الصعد ، ولطالما حلمت القوى الثورية السياسية بتجاوز وتجسير تلك الهوّة بفعل برامج وخطط بشّرتْ بها في اعقاب ثورات وانقلابات، خلال القرن الماضي ، ووعدت بحرق المرحل او تنظيم المجتمع وقواه تنظيما جديدا يفضي الى تطورها، او تلمس طرق بناءة اخرى تعكس خصوصية واختلاف او غير ذلك من الدعاوى ، التي انتهت ، جميعا ، الى ما نعيشه اليوم من بؤس، وقد تظافرت في ذلك عوامل كثيره تخرج عن اطار هذه المقالة ولكن تفحصها والتمعن في سيرورتها اشار ويشير الى ان التخلف والفوضى واللصوصية والانقسام وهزيمة الهوية الوطنية امام الهويات الثانوية والارتهان لارادة قوى الهيمنة والاستعمار من جديد ، وكل ما نعيشه اليوم من مظاهر التدهور والنكوص ليست لعنة ابدية ولا خصال لصيقة بشخصيتنا وتكويننا التاريخي ولا سمات ملازمة تنتج بالضرورة عن انتمائنا القومي او انتماءنا الديني ....

لم تكن اليابان ، مثلا ، شيئا عظيما مميزا قبل مائتي سنة فقط ، بل ان مصر محمد علي كانت صنوها وكانت تقف معها على مستوى متقارب ان لم تكن قد تفوقت عليها في بعض الجوانب، واذا تفحصت قيمها القومية ومعتقداتها الدينية واساطيرها لتعجبت كيف يمكن لها ان تصبح ما هي عليه الان !

  كذلك شأن الصين التي تخطو اليوم بخطوات عملاقة ومتسارعة لتصبح ثاني اكبر قوة اقتصادية في العالم وليطمئن رئيسها ، امس ، الولايات المتحدة ويهدئ من روعها قائلا ان الصين لا تطمح الى ان تنافسها في الهيمنة على العالم ، وهي التي كانت حتى السبعينات او الثمانينيات من القرن الماضي تعيش مشاكل اقتصادية  واجتماعية جمّة ، اما في مطلع القرن الماضي فقد كانت مباءة للأفيون والفساد المتفشي . وينهض العملاق الهندي من حمأة الفقر والانقسام القومي والديني والاجتماعي الصارخ والتخلف المرير، ليسير بخطى واثقة نحو ان يحتل مركزا جديرا به في عالم القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المؤثرة . بل ان ايران ، جارتنا التي تشبهنا في الكثير من الملامح ، تتحول امام اعيننا الى قوّة ذات شأن ...

قلت في مطلع هذا المقال ، ان مثل هذه النشريات والصور قد تكون صادرة عن شباب وفتية متحمسين او ادعياء ثقافة ومعرفة او جهات ذات مرام واغراض، واتوجه هنا ، للشباب المتحمسين والمتذمرين بالقول : ان الحق ، كله معكم ، وانتم تلمسون هذا الواقع المرير وتتلظون بمفاسده الفظيعة، وتعانون من تحكم فاسديه وسيادة لصوصه ، ولكن ما الحل باعتقادكم ؟ هل نهرب الى التغني بما حققته مجتمعات اخرى ونستنيم الى حلم ان يرأفوا بنا ويأخذوننا اليهم ؟ لو كان الامر ممكنا ، ولو كانت اوروبا ومجتمعاتها جنة مفتوحة الابواب للجميع ، اذن لطويت خيمتي وهاجرت معكم ولكن ها انتم تعودون من اوروبا بأكثر من ثلاثة الاف ، اسبوعيا كما يقال او شهريا ، بعد ان عانيتم الامرّين وبعد ان خابت الآمال في  حضن انساني دافيء وعطوف ولم تعد ميركل " اكثر اسلاما من المسلمين " ولا بلير قلبا انسانيا مفعما بالرحمة ، بل انكم اكتشفتم وتكتشفون ان معاناتنا سلعة ، ودموعنا تجارة ، واحلامنا وآمالنا  استثمارا يمكن ان يدر المليارات حتى على جيراننا واخواننا في الدين ... ان الحل اذن، الحل الوحيد الممكن  ، ايها الاخوة والابناء يكمن في التصدي لتنظيف الدار واعادة قلب تربة المزرعة ، وتهوية الغرف المظلمة وفتح الابواب ، عنوة ، امام الشمس والريح ، ولايمكن ان يتم ذلك الاّ بسواعد شابة وقلوب فتية وعقول متطلعة ...

اما لأدعياء الثقافة الفيسبوكيين ، فأقول :ان امهاتنا هنّ امهاتنا ، بأية سحنة كنّ وعلى اية ملامح خُلقن ومهما كان نصيبهن من الثقافة او العلم .  فهل فيكم من احب او احترم ام صديقه او زميله لأنها اجمل صورة من امه ؟ او اكثر ثقافة ومدنية منها ؟  فلم نقارن بين امهاتنا ، اخواتنا ، زوجاتنا ، وبين النساء السويديات او الانكليزيات او الالمانيات، شكلا وسلوكا . هل يشبه احدكم السويدي او الانكليزي او الالماني ؟ وهل سلكتم في كل حياتكم اليومية على قدر من التحضر والانتظام والالتزام ما يجعلكم تتشدقون بمثل ما تتشدقون به ؟!، بل هل سلك احدكم، يوما ، كما يسلك اولئك اتجاه نسائهم ومجتمعاتهم واخلصتم في اعمالكم كما ترونهم مخلصين ؟! اليس الجدير بنا ، فعلا، ان نشعل شمعة ، مهما ضئلت، بدلا من ان نلعن الظلام ؟

  على الرغم مما نعرفه جميعا واكتوينا ونكتوي بناره ، يوميا ، من دور معرقل بل وهدام لكل تطلع حيّ وبّناء، مارسته وتمارسه المؤسسات التقليدية ، والدينية منها خصوصا . غير ان نقد وتعرية هذه المؤسسة وطبيعة الدين الذي تروج له، الدين المظلم المشبع بالجهل والكراهية والتعصب والدماء ، ومعاداتها للعلم والمنهج العلمي والتحرر والبناء الاقتصادي والاجتماعي والفكري ، شيء ، وما تروج له ، منذ سنوات عديدة ،جهات اعلامية وبحثية وثقافية ، غربية اساسا ، مدعومة بقدرات مالية وتسهيلات تقنية ضخمة لمعاداة الاسلام بما هو دين والقاء كل اسس المعاناة الحاضرة في جعبته او شتم الانتماء القومي والقول انه اس كل الشرور ، او السخرية من الوطن والاوطان وتسفيه عادات وقيم المجتمعات والشعوب شيء آخر مختلف تماما ...

 ان النظر الى كل شيء فينا على انه مظلم حالك الظلام، بائس ومقرف ولا نهاية لبؤسه ولا امل في تغيره ومقارنته بصور مضيئة وزاهية وانسانية في منتهى المثالية في الغرب ، لا يمكن الاّ ان يقود الى عدمية تعني التحلل عن كل قيمة  وخلق الفرد وخصوصا الشاب الذي يقول " طز " بكل شيء، وليس بخاف على احد  ان مثل هذا الفرد سيكون ذاتا متحللة، مشلولة، تفتقر الى اي حافز ذاتي بنّاء ، وسيكون عرضة لان يجند كأداة في خدمة اي مشروع ، وهذا ما ازعم ان تلك المؤسسات والجهات تشتغل عليه منذ سنوات مدركة ان عملها ، هذا جزء من منهجية شاملة تستهدف ، اساسا  ،الارض والثروة والانسان وتصادر المستقبل لصالح الجشع والاستغلال العالمي الذي ينهش جسد الانسانية لحساب نخبة من الانانيين الاشرار. ان بعض ما نروج له من مقارنات وصور قد تبدو، لنا ، في منتهى البراءة والعفوية والبعد عن الغرض، ربما يكون مفعما بالغايات لدى الاخرين ممن يصممها ويمنهجها ويطلقها في فضاءنا الرحب الشديد التأثر !....              

 

 

 

 

 

تاريخ النشر

13.03.2016

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

13.03.2016

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org