<%@ Language=JavaScript %> عارف معروف انا السلطان ! 

 

 

انا السلطان ! 

 

 

عارف معروف      

 

 

كان ولدي، طفلا دون الرابعة من العمر ، حينما دخلتُ ،عليه ، الغرفة ، فألفيته مستلقيا على بطنه وهو يرنو الى مصباح الفلورسنت ، مبتسما ابتسامة دهشة وتفكرّ . كان يغلق عينيه ويفتحهما ،كل لحظة .

التفّت اليّ سائلا : بابا ... هل ظننتَ ان المصباح ينطفئ وينير؟

حدستُ ما يفكر به ، وجعلتُ نفسي انساق الى اعذب نكته صَدرتْ عنه ، في سّنه ذاك: طبعا ، أولَمْ يفعل ؟!

كركر بابتهاج آسر: كلا ، بالطبع ، هذا انا أُغلقُ عينيّ وافتحهما ....

كان ولدي ، مثل كل طفل في سّنه ، تلك ، يدرك العالم عبر نوع من مركزية الذات ، تلك التي تكون شاملة واساسية ، حينما يكون الجنين في رحم امه ، اذا ان حدود ومدار ادراكه ، الجنيني( وهو ادراك بايولوجي ، طبعا ، يتضمن ، اساسا ، الاستجابة للمثيرات ) ، لا يمكن ان تتجاوز ذاته ابدا ، والتي تصبح ، بالنسبة لا دراكه ، ذاك ، مركز الكون ، بل الكون بأسره . وما ان يولد الطفل ويدرج في مراحل النمو حتى يدخل الاخرون والاشياء الى اطار الصورة وتمتد وتتعمق العلاقات وبالنتيجة المدارك والافاق التي ستتسع  وتتعقد ، لاحقا ، بمقدار سعة وتعمق التجربة والخبرة ثم المعرفة والثقافة والحكمة ، حتى تفضي الى القناعة بأن الذات ، مهما عظمت ، ليست سوى ذرة رمل على شاطئ بحر ، بل محيط . وهكذا، نجد ان العلماء والعارفين و واولي الالباب والحكمة الحقيقية ، يتواضعون ويدركون انهم اصغر من ذرة ،بكثير، في محيط ، رحب ، لا نهائي من الكائنات والموجودات . محيط من الكون والفساد المستمر ، متغير ابدا ولا نهائي وهو سائر ابدا ، بهم وبدونهم ، لأنه حيّ، ومنتج ،وولاّد ، ولأن الانسانية ولاّدة لا تنتهي بانتهاء فرد مهما عظمت قدراته. لكن البعض من البشر ، بل الكثيرين منهم ، تتوقف، عقارب الساعة ، عندهم ، عند هذا القدر او ذاك ، من مركزية الذات ، اي انهم ، بتعبير آخر لا ينضجون.

فالمرأة التي تعتقد ان اولادها لا يمكن ان يخرجوا من تحت جناحي رعايتها ورقابتها المستمرة وتظن ان اية إغماضه عين او غياب ، مؤقت او دائم ، لها ، سينتهي الى خراب العالم وضياع الاولاد نهائيا ، لا تتصرف بدافع الحب فقط ، رغم انها تتوهم ذلك ، بل ان جلّ تصرفاتها ، تلك ، تصدر عن نوع من مركزية الذات . والأب الذي يشل حركة وفاعلية ابناءه حتى بعد ان يبلغوا مبلغ الرجولة بالاملاءات التي لا تنتهي ، يتصرف عن مركزية ذات ، ومن هنا دخلت كلمة " ابوية " او بطرياركية في الادب السياسي واكتسبت دلالتها . لكن هذا النوع من مركزية الذات محدود الضرر، اذ ان آثاره تقتصر على الافراد او محيطهم العائلي ،اما مركزية الذات او الذات المتضخمة او المتورمة بسببها، كما يحلو للبعض التسمية ، فأنها ستكون ذات ضرر وبيل بل وكارثي على المجتمعات اذا ما وسمت سلوك او كمنت في الاساس النفسي لسلوك وتصرفات زعيم سياسي ،سواء كان زعيم حزب او حركة او تمكن او مُكن من قيادة بلد او شعب ...

حينما تكللت الثورة الكوبية بالظفر ، مثلّت صورة فيديل كاسترو الشاب، صورة حلم جذل للإنسانية المعذبة والحالمة ، صورة محملة بالوعد والمعنى ولكن ماذا بقي منها بعد ستين عاما من الحكم والتمسك به ؟

اذكر انني حينما كنت كنّت فتى ابحث عن احلامي الفاضلة في الافكار والكتب التقيت ب " كيم ايل سونغ " وتحمست لفكرته في الاعتماد على الذات حتى علق تعبيرها الكوري في بالي وذاكرتي الى اليوم " زوتجيه " وقلت في نفسي ان آسيا الانسانية العظيمة قادمة . ولكن بعد عقد من السنين ، بدأ ذلك الوهم يتبدد وانا انظر الى غلاف مجلة كورية شمالية دعائية، كانت تصدر بالعربية ، وهي تحمل صورة تمثال  ذهبي هائل للمرحوم " سونغ " وسط العاصمة "بيونغ يانغ" والجماهير تبدي له آيات العرفان والتبجيل، حيّا ! اما اليوم، فلا حاجة الى القول ان ذلك الحلم قد تحّول ، في ظل مركزية ذات مرضّية لحاكم وورثته ، الى هذيان مرعب وشلل مجتمعي رباعي ناجم عن خوف يتعشق بشخصية الانسان في كوريا الشمالية من الولادة حتى الوفاة !

ان مركزية الذات المرضية لا تحصل بسبب "التثبيت" الناجم عن عدم النضج، بل ان بذورها الكامنه في كل نفس بشرية ومخلفاتها المتبقية منذ الطفولة يمكن ان تنمو وتنتعش بال" تعزيز" ...وهو ما يحصل اذا احاطت بالانسان ظروف تشجع هذا التثبيت وتعززه وتعمقه ، مثل ان يجد الانسان نفسه، لسبب او لآخر، متميزا عن البشر كثيرا وتعود اليه وترتبط به ليس ارزاق ومنافع الكثيرين منهم بل  ومحيا وممات الالوف منهم كذلك. لقد رأينا وعايشنا كعراقيين ، صورة مرعبة من مركزية الذات المتورمة ، متجلية في  سيد كلي القدرة وطاغية منفلت في شخص صدام  الذي استمر الحاكم بأمره للعراق والعراقيين طوال عقود، لكن الامر لم يتوقف عليه فقط ، بل ان مثل هذه الظاهرة  نمت حتى عند طغاة صغار وطارئين ،هنا وهناك ، ممن لم يكونوا قبل 2003 يحلمون بعشر معشار ما حصلوا عليه من سلطة وتمكين ، لا بفعل كفاءة نادرة او قدرة مميزة  او تاريخ جلي ، بل بفعل انهم وضعوا انفسهم في خدمة الغزو ثم الاحتلال. ان الحياة المترعة بالمال والجاه والسلطة التي بدأوا يحيونها وتكالب ذوي الحاجات والانتهازيين على فتاتهم ، عزز لديهم روح التمسك الشديد بما يعيشونه من نعيم وبعث وعزز لديهم مركزية ذات ترى انهم اشخاص موهوبون وان العناية الالهية قد حبتهم بنوع من الرعاية، وان العالم لا يمكن ان يستمر او يسير الى النجاة بدونهم !

في تمثيلية تلفزيونية مصرية رائعة عرضت في نهاية السبعينات ، واعتقد انها كانت معرّبة عن نص عالمي ، يحتاج مخرج مسرحية الى من يقوم بدور السلطان في مسرحيته ، وهو دور محدود جدا يتمثل في الجلوس الى كرسي السلطنه في منتصف خشبة المسرح، وهز الرأس استحسانا طوال وقت العرض المسرحي . وبسبب عدم توفر الكومبارس، يومها ،  يأتي ببائع" الترمس" الجوال في باب القاعة ليقوم بهذا الدور . وطوال اسبوع من ايام العرض ، يجلس ذلك الرجل " قام بدوره الممثل القديرالراحل توفيق الدقن " ، يجلس معتمرا عمامته المهيبة المرصعة بالجواهر، ومتلفعا بعباءة السلطان المترفة بالوشي الذهبي، يهز رأسه مبتسما : للراقصات وهنّ يقدمن عروضهن المسلية امامه ، لذوي الحاجات وهم يطلبون رأفته ، للوزراء وهم ينحنون تعظيما له، حتى يتلبس الدور في نهاية المطاف . وفي آخر يوم من العرض المسرحي ، يُبلغ ان العرض قد انتهى ويتعّين عليه ان يعود الى عمله " بيع الترمس " عند باب القاعة، لكنه يعود في اليوم التالي ، يرتدي بدلة السلطان من غرفة الاكسسوارات ، حيث تعّود طوال اسبوع، ويجلس الى كرسي على خشبة المسرح ، وحينما يجيء المخرج والممثلون لترتيب المسرح ، لعرض آخر مختلف ، ويفاجئون به ويطلبون اليه المغادرة ، يتمسك بالكرسي الذي يجلس اليه وهو يصيح " اخرج ازاي... انا السلطان ، ياناس... انا السلطان "!!

 

 

  

 

 

 

تاريخ النشر

15.02.2016

 

 

 

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

15.02.2016

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العرب و العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org