Untitled Document

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة

 
   

   

 

ما الذي كشفته الإنتخابات ومعركة العد اليدوي؟ (1)

 

صائب خليل

 

رغم أن "العد اليدوي" لم ينته بعد، لكن نتيجته باتت معروفة وفقد الناس اهتمامهم به، تماماً كما تعرف نتائج المسلسلات العربية قبل نهايتها بزمن طويل. بطل المسلسلة الأول مازال يصرخ ليعلن نتيجة ما،

 

 بين الحين والآخر وليذكر الناس بأن المسلسلة لم تنته بعد، لكني لم أشاهد أي تعليق أو مقالة حول تلك الصرخات، وأنا نفسي لم أقرأ أي واحدة من إعلاناته رغم متابعتي للموضوع بشكل كبير. ويبدو أن هناك إتفاقاً شعبياً عراقياً على أن التمثيلية قد انتهت، وتقييم أبطالها قد ثبت في تاريخ العراق إلى الأبد.

 

إذا كانت هناك نسبة من الناس صدقوا وأنا منهم إلى حد ما، أن هناك قضاءاً عراقياً له من الإستقلالية ما مكنه من فرض إعادة عد أصوات الناخبين بعد كثرة أدلة التزوير غير القابلة للرد، فقد صحونا جميعاً من الغفلة الكبيرة، فكل ما هناك أن "القضاء" كان قد بيت خطة أخرى حين سمح بإعادة العد، فقد كان يؤجل ضربته للقانون والديمقراطية، خطوة، تتمثل بالتفسير المثير للضحك (والبكاء كالعادة) للمفوضية بأن إعادة العد لا تشمل مطابقة استمارات صناديق الإقتراع مع سجل الناخبين، واعتذارها عن التدقيق في صحة التوقيعات باعتبار أن هذا عمل جنائي ليس من اختصاصها! (1)  وهنا نسأل السيد الحيدري سؤالاً يضاف إلى الكثير التي لم يجب عنها: "ما معنى الأقراص التي اعطيتموها للمرشحين إن لم يكن ممكناً إستناداً إليها المطالبة بمطابقة سجل الناخبين مع أوراق التصويت؟ وما هو المغزى من التواقيع أصلاً، إذا كان التدقيق فيها غير ممكن عملياً؟"، قال الشهرستاني أن هذا الرفض "يعزز الشكوك بوجود عمليات تزوير"، وقد كان الشهرستاني في رأيي مجاملاً، فقد عبرنا مرحلة "الشكوك" منذ زمن!

ونسأل المحكمة "الموقرة" لماذا أمرت بإعادة العد إن كانت تقصد إعادة عد لا يتحرش بالإعتراضات التي تم تقديمها؟ ليس لنا أن ندعوا لمخالفة حكم القضاء، لكن لنا أن نقول للناس: هذه هي مفوضيتكم وهذا هو قضاءكم، فاحكموا بأنفسكم!

 

لقد خسرت الحقيقة المعركة، وحرمنا قرار المحكمة من مطابقة الإستمارات، لكي يمكن أن نثبت أن المفوضية قد زورت الإنتخابات (أو أنها بريئة)، وبالشكل الكبير الذي توحي به كل أحاديث وتصرفات رئيسها ورئيس وأعضاء القائمة المستفيدة من التزوير المفترض، "المؤمنين" بالمفوضية ونزاهتها يفترض أن ينزعجوا أيضاً لحرمانهم من دليل براءتها، لكن مثل هذا الإنزعاج لا يبدو عليهم على الإطلاق! لا مفر من إحترام قرار المحكمة من أجل عدم قتل القضاء، تماماً كما تمتنع الشرطة عن إطلاق الرصاص على لص يمسك رهينة ثمينة أمامه.

 

لقد خسر العراق الحقيقة، أو "برهان الحقيقة" بهذه المناورة، لكننا لا نستطيع أن نقول أن معركة العد اليدوي كانت بلا معنى. لم تكشف لنا حقائق التزوير كما كنا نأمل، لكن كشفت الكثير من الحقائق الأخرى، وبعضها لا يقل أهمية عن التزوير.

 

لنبدأ من الحملة الإنتخابية نفسها، فالمفروض بالدولة أن تحاول تقليل الفارق بين الأثرياء من المرشحين والآخرين الأقل حظاً منهم، بأن توفر بعض المال وبعض الإعلام المجاني للمرشحين، فتدعم تكاليف طبع إعلاناتهم وتخصص لهما وقتاً مجانياً في التلفزيون ومساحة في الصحف. هذا التخصيص بالطبع لن يكفي لجعل الحملات عادلة، فالغني وصاحب الواسطة والعلاقة بالسلطة والإحتلال ومصادر المال العربية وتأثير الجوار، سيحظى بحصة الأسد دائماً، لكن هذا الدعم يعطي ولو نصف فرصة للمرشح الأفقر ليصل صوته لبعض الناس لعلهم يجدون فيه الصوت الذي يمثلهم. الأنظمة الديمقراطية تفعل ذك من أجل تخفيف ذلك الفارق، فما الذي فعلته الحكومة العراقية؟ بدلاً من مساعدة الفقراء من المرشحين، أستغلت محافظة بغداد القضية لتحقيق بعض الأرباح فأجّرت الشوارع للإعلانات، لتزيد من فرص من يستطيع أن يدفع على حساب من لا يستطيع! وهذا يجب العمل على تجنبه في الحملات القادمة، وأن يعمل على خفض تأثير المال في الإنتخابات من خلال تخصيصات مالية وإعلامية مجانية معقولة.

 

ومن ما كشفته تلك المسلسلة وبشكل خاص ما كشفه دور المفوضية فيها، هو حقيقة أن لا ننتظر أنبياءاً في السياسة (ولا في الأمم المتحدة) وأنه عندما تكون هناك مصالح تتعلق بمصير ثروة بمئات وألاف المليارات، فأن نسبة من يصمد من البشر تقل بشكل شديد. لقد نبهتنا إلى حقيقة أن من يريد حماية الإنتخابات، خاصة في بلد مثل العراق ونفطه، عليه أن يتفحص بدقة كل خطوة وكل مرحلة من مراحل العملية، وأن يتخيل الأبالسة تبحث بهمة وخبرة وعبقرية عن أية ثغرة لتخريبها وتزويرها. على من يريد حماية العملية الإنتخابية، ويحترم نتائج الإنتخابات وليس نتائج التزوير، أن يتخيل نفسه ذلك الشيطان المزور، الباحث بلا كلل عن نقطة ينفذ منها.

 

نعم يجب أن ننتبه إلى شخص رئيس المفوضية، لكن أهم من ذلك أن ننتبه إلى طريقة عمله وعمل المفوضية. لا توجد طريقة أكيدة لإنتخاب رئيس مفوضية أمين، لكن ربما نجد طرق أخرى لزيادة صعوبة إدخال مرتش إلى ذلك المنصب. ربما من الأفكار المفيدة أن لا يكون هناك رئيس للمفوضية، بل لجنة رئاسة تقودها، تكون كل قراراتها بالتصويت والأغلبية واحياناً أغلبية الثلثين، حسب القرار. هذه اللجنة يجب أن تكون مشكلة من ممثلين عن الكتل الرئيسية، وربما بإضافة شخصية أو أكثر من المستقلين الذين يمكن الوثوق بهم إلى درجة جيدة.

ولا يجب الإكتفاء بالإهتمام بالمسؤولين العراقيين، بل مراقبة تحركات الجهات الأجنبية، خاصة تلك التي لها سلطة في العراق ومصلحة في أن تكسب جهة الإنتخابات دون الأخرى.

 

كذلك يجب مراجعة النظام الإلكتروني الذي تستخدمه المفوضية، من حاسبات وأجهزة إتصالات وكابلات أو فضاء، والبحث في إمكانية اختراقه وتزوير النتائج. لتكن وزارة التكنولوجيا هي المسؤولة عن وضع صيغة النظام، على أن يتم تنفيذه من قبل جهة أخرى غير التي صممته، وربما يتم الإشراف عليه من قبل جهة ثالثة، فكلما كثر المشاركون صعبت رشوتهم وازداد احتمال افتضاح المرتشي. وأهم من كل ذلك أنه يجب تقليل الإعتماد على الإلكترونيات إلى أدنى حد ممكن. ويجب إلغاء الحاسبات كأداة للحساب، والإكتفاء بدورها كأداة لخزن المعلومات بعد التثبت النهائي منها. فالحاسبات ليست "جهة حيادية" كما حاول الحيدري أن يخدعنا، بل هي جهة مرتشية رخيصة (مجاناً) ومتحيزة تماماً لمن ينظمها ومن يكتب برامجها ومن يدخل معلوماتها. ويمكن التآمر معها من بعيد وبدون أن يحتاج الراشي إلى دخول غرفتها أو إجراء حديث معها، وهي لا تنتمي إلى حزب يحاسبها ولا عشيرة تتحسب لسمعتها، وهي فوق ذلك عديمة الخوف وعديمة الحياء! الحاسبات عدوة الإنتخابات الأكثر خطراً، وأذكركم بحقيقة إلغاء استعمالها من قبل هولندا التي لم تجد طريقة لتأمينها حتى بالحد الأدنى. يجب إلغاء الحاسبات نهائياً من أية عملية حساب أو قرار، إن أردنا البدء بالإتجاه نحو انتخابات نزيهة.

 

لكن حاسبات المفوضية لم تستخدم فقط بشكل خطير في عد الأصوات وجمعها دون رقيب، بل استخدمت أيضاً في إجراء "قرعة" لإنتخاب مديري مراكز الإقتراع، وهي لعبة حذرت منها في وقتها،(2) لكن وقتها لم يكن هناك من أدرك الخطر بعد، فذهب تحذيري دون رد فعل. قلت في تلك المقالة أن الحاسبات ليست مناسبة لإجراء قرعة في قضية حساسة، لأنها صندوق أسود لا تعرف ما يجري بداخلها وكيف تمت برمجته، ولا شيء يضمن أن البرنامج قد كتب من أجل أن يتم اختيار مدير المركز بشكل عشوائي وبلا تحيز. بل ان الحاسبة ليست قادرة على اختيار شيء عشوائي، وما يسمى بالرقم العشوائي في الحاسبة، هو رقم محسوب بواسطة برنامج وضع لكي "يمثل" العشوائية ولذا يسمى "سيودو راندوم" أي "عشوائي كاذب". وهذا يستخدم للعمليات الإحصائية والعلمية حين لا يكون هناك مصلحة للباحث في غش النتيجة، كما أنه يمكن أن يستخدم لـ "قرعة" ألعاب رياضية أو شطرنج، حين لا تكون هناك مصالح كبيرة تدعو إلى التزوير. لذلك فأن قرعة كأس العالم لا تجري بواسطة الحاسبة!

 

وقتها لم تكتف المفوضية بتنفيذ هذه القرعة المشبوهة، بل قامت بتحضير مسرحية لها، فدعت وسائل الإعلام والصحفيين والمهتمين لتعرض عليهم كيف أن الحاسبة ستختار بشكل "عشوائي" إسماً من الأسماء التي أدخلت إليها! الصحفيون حضروا العرض، ولم أسمع تعليقاتهم على ذلك، لكني اتساءل كيف يستطيع الصحفي أو أي شخص في العالم أن يراقب عمل حاسبة وهي تستخرج النتيجة؟ كيف يعرف أن الإسم الذي تم انتخابه كان اعتباطياً؟ ولنفرض أنه كان بالإمكان التأكد من ذلك بأعجوبة ما، فما الذي يضمن أن المفوضية ستشغل الحاسبة أثناء القرعة الحقيقية، بنفس البرنامج الذي شغلت به العرض؟ أليس هذا ضحكاً على الناس؟

أن مجرد إقامة هذه التمثيلية مؤشر سوء نية. وكان على المفوضية أن تبين للناس والصحفيين، إن أصرت على الحاسبة، أنه ليس هناك طريقة لعرض "أمانة الحاسبات"، وأن الأمر يعتمد على الثقة بالمفوضية، ثم تترك القرار لهم.  ما الذي عرض على الصحفيين؟ قوائم أسماء تنزل على شاشة الحاسبة لتقف عند اسم معين، وكأنها الروليت مثلاً؟ أم أشكال متحركة تنتهي باسم صاحب الحظ السعيد يومض في النهاية؟ ربما صاحب كل ذلك بعض المؤثرات الصوتية؟ ما الذي يمكن للصحفيين أن يروه على الشاشة ليقرروا أن القرعة ستكون سليمة أم لا؟

لقد كانت قرعة انتخاب مديري مراكز الإنتخابات، وخاصة بعد الخداع بواسطة العرض، وصمة عار أخرى في سجل المفوضية.

أتمنى أن نتذكر كل هذا كلما اقترح أحدهم استعمال الحاسبات في الإنتخابات، فكما كان عنوان مقالتي فأن : استعمال الحاسبات في الإنتخابات ليس حضارة بل محاولة تزوير! 

 

الشيء الآخر الذي كشفته الإنتخابات المزيفة، حقيقة موقف أميركا والسفارة الأمريكية وقدرتها الشديدة على اختراق النظام العراقي. حقيقة موقف أميركا كان واضحاً صريحاً في اللحظات الحاسمة، مراوغاً مجاملاً في الفترات البينية. في اللحظات الحاسمة كانت الحكومة الأمريكية تعترض وتفرض نفسها بوقاحة متناهية، وترفض طلب رئيس الحكومة وتوسله بأن لا تدعم أميركا البعثيين الذي "تلطخت أيديهم بدماء الأمريكان" كما كان يقول لهم. حدث هذا قبل الإنتخابات حين كان الأمريكان يتآمرون مع بقايا البعث في اسطنبول، وهي نقطة تحتسب على تركيا أيضاً، فكان جواب أميركا   (3) : "أن الولايات المتحدة ما زالت هي المسؤولة عن السياسية الخارجية والداخلية للعراق من خلال سعيها إلى إنجاح العملية الديمقراطية في العراق"!!

 

وحين فشلت الخطة وكان رد الفعل الشعبي أقوى من ا لمتوقع، وأدرك الأمريكان أن الضغط على المالكي لن يجدي نفعاً لأنه حتى هو لن يستطيع تمرير مثل هذا المشروع, وحتى إن أراد ذلك، إنسحبت من الموضوع، وكانت فترة بينية حاول فيها الأمريكان استعادة بعض ثقة العراقيين بها والتي تحطمت تماماً، فقال بدون مناسبة، بأن أميركا لا تريد إعادة البعث إلى السلطة. (4)

 

لم يكونوا يريدون استعادة الثقة من أجل الصداقة واللطف، بل من أجل منح كتابهم وإعلامييهم الذين يعملون لحسابهم في العراق والعالم العربي، فرصة ليستمروا في الدفاع عن الموقف الأمريكي، وأهم من ذلك، من أجل استعادة القدرة على الكذب في المرحلة التالية.

يكشف لنا هذا الخطر الشديد على السيادة الذي أدخلنا فيه من وقع الإتفاقية ومن دعمها، بل ومن سكت عنها وتركها تمر. كل هؤلاء يدينون للشعب العراقي باعتذار شديد على ما سببوه له من أذى وما سيسببوه مستقبلاً. يجب حساب العامل الأمريكي مستقبلاً في كل قرار، والتهيؤ لمواجهته إن كان القرار لا يصب في الرؤية الأمريكية للبلاد، هكذا فقط نكون قد استفدنا من انكشاف هذه النقطة.

 

ثم جاءت لحظة حاسمة أخرى، وكشف الأمريكان عن وجههم الحقيقي ثانية، فالقوا بكل ثقلهم من أجل عرقلة قرارات هيئة المساءلة والعدالة. لقد كان الحماس الأمريكي لفرض المطلك وظافر العاني وجماعتهم من القوة بحيث لم يهتموا في تلك اللحظة لا لعلاقتهم بالمالكي وحكومته ولا لنظرة أصدقائهم من الشعب العراقي، الذين مازالوا يبحثون لهم عن حجة يصدقون وعودهم بها، فاجتمعوا بصراحة ووقاحة أيضاً لساعات مع اللجنة القضائية لإقناعها بعرقلة قرار المساءلة. ويبدو أن أدلة المساءلة كانت من القوة بحيث أن اللجنة لم تتمكن من إيجاد صيغة لنقض القرار، بل أكتفت بتأجيل البت فيه إلى ما بعد الإنتخابات. وقد يكون السبب أن السفارة الأمريكية رأت أن هذه الطريقة أكثر قدرة على امتصاص الغضب الشعبي من المواجهة المباشرة معه، وتحويل تلك المواجهة إلى مرحلتين بدلاً من مرحلة واحدة أكثر صراحة ووضوح.

وجاء الضيف الثقيل بايدن يبيع نفس الفكرة، ورحبت به العراقية ترحيباً حاراً، وقادت وسائل الأعلام العراقية والعربية المعروفة بتبعيتها الأمريكية حملة إعلامية شعواء للدفاع عن "الحق الديمقراطي" للمطلك وغيره من الممنوعين حسب الدستور، في الترشيح والوصول إلى البرلمان، وتم تصوير تنفيذ القرار الدستوري بالمنع وكأنه إنقلاب عسكري على الديمقراطية! وكان الإعلام يعمل على إثارة مؤيدي المطلك وعلاوي بأن حقوقهم الدستورية تنتهك. والهدف الثاني له كان تخويف الشعب العراقي من احتمال تدهور الوضع إلى حرب أهلية. ولكن التركيز الأساسي في الإرهاب كان موجهاً إلى قائمة دولة القانون. فقد كانت الأمور توحي وكأن الأمريكان يعدون الساحة لعملية اغتيال للمالكي، أو على الأقل اعتقاله بتهمة التآمر على الديمقراطية التي وقع لهم عقداً بمسؤولية حمايتها (أرجو أن يكون قد أدرك نتيجة فعلته تلك)، وتنصيب الحكومة التي ينتظرون منها أن تطيعهم طائعة عمياء، خاصة في موضوع تمديد بقاء القوات العسكرية، حكومة علاوي والهاشمي وبقية الشلة التي كانت تصرح في هذه الأثناء بشكل صريح بأن الإنسحاب حسب الإتفاقية بحاجة إلى إعادة نظر (5) وهي تصريحات اتسمت بالبلاهة، لأنها كشفت الموضوع بطريقة واضحة جداً في وقت مبكر وغير مناسب لتنفيذ المؤامرة.

 

لقد ألقت أميركا بكل ثقلها وراء خطتها، لكن المساءلة والحكومة وقفت بقوة غير متوقعة أمام الرغبة والضغط الأمريكيين، مما أفشل المحاولة. فما كان من السفارة إلا أن تنسحب إلى خط دفاعي خلفي آخر، مؤجلة الصدام مع المالكي في لحظة قوته، لكنها بلا شك لن تفوت له ذلك، خاصة بعد أن تجرأ على التهديد بطرد السفير الأمريكي، متخطياً تابو سياسي خطير. ومثلما تراجعت أميركا في المرة السابقة فعلت هذه المرة وصاحبها أيضاً، بعد بضعة أيام، تصريحات بلا مناسبة من قبل السفارة بأنه ليس صحيحاً أن الإدارة الأمريكية تريد إعادة البعث. لقد صار منظر السفير الأمريكي مثيراً للضحك وهو يكرر الكذب المكشوف بهذه الكثافة، وتسري اليوم إشاعات بأنه سيستبدل بواحد جديد لعلنا نخدع به بضعة مرات قبل ان ينكشف تماماً ، ليستبدل ثانية وهكذا..

 

ما يمكن الإستفادة منه من انكشاف نقاط الضعف هذه في النظام العراقي، هو العمل على إصدار قرار برلماني يمنع الجهات الأجنبية من الإتصال بأية جهة رسمية عراقية بدون موافقة الحكومة، وأن يتم ذلك تحت إشرافها وبحضور ممثل عنها إن تمت تلك الموافقة. ومن الأفضل أن يتم حضر تلك الإتصالات تماماً، حتى بموافقة الحكومة، في فترة شهر قبل الإنتخابات وحتى بعد نهاية تشكيل الحكومة الجديدة، لكي نفوت الفرصة لتجاوز القانون من خلال الإبتزاز والضغط. ولأن القرار لن يحدد الحكومة الأمريكية أو ألإحتلال كهدف له للمنع، بل الجهات الأجنبية بشكل عام، فلن يسهل على الأمريكان إبداء الضيق العلني منه، وإلا كان ذلك إقراراً بأنهم مهتمين بالسماح بتدخل القوى الأجنبية في الشؤون العراقية، عكس التصريحات الكثيرة لمسؤوليهم.

 

ونقطة أخرى في غاية الأهمية نكتشفها من هذه التجربة هي أن أميركا تتراجع عندما تجد المعارضة قوية لخططها وتهدد بالإضرار بمصالحها وخططها للعراق، وهذا يعلمنا الطريق المناسبة للدفاع عن مصالح العراق عندما تتعارض مع المصالح الأمريكية: ليس باللطف والتوسل والتظاهر بالصداقة، بل بإفهام المحتل أننا مصرون على تأمين مصالحنا في هذه النقطة وأن تدخله مرفوض.

 

ثم بدأت الإنتخابات، وبدأت الفضائح بالتسارع. أولى تلك الفضائح كل ما جرى من ضغط على الناخبين لمنعهم من التصويت بمختلف الطرق وتزوير صناديق الإقتراع ما أمكن. ويبدو أن معظم، إن لم يكن جميع الفرقاء الكبار شاركوا في هذه الوليمة من الفضائح. وفي هذا الأمر ليس لدي ما أضيفه. كذلك تم منع ممثلي بعض الأحزاب من المراقبين من دخول مراكز الإنتخاب، وهو ما يجب أن يتم أتخاذ قرار بطريقة لمنع حدوثه مستقبلاً بأي شكل. مثلا ً أن لا تحتسب أصوات أي مركز ما لم يكن جميع الممثلين حاضرين فيه. وللتأكد يمكن أن يتم حضور المراقبين في اليوم السابق على التصويت، واستبدال من يتعذر حضوره بشخص يرشحه حزبه، أو أن يوقع الحزب بتنازله عن المراقب لعدم توفر بديل.

 

إنتهى التصويت، وبدأ ماراثون عد الأصوات، وهو ماراثون في العراق فقط، أما في بقية بلدان العالم فهو سباق مئة متر، ينتهي بلمح البصر بعد إغلاق الصناديق. هذا التأخير العجيب الخاص بالعراق، وغير المفهوم، الذي يقارب شهر لعملية تجريها أفقر الدول وأكبرها، وكذلك أكثرها تطوراً أوأكثرها جهلاً، في يوم واحد أو بضعة ساعات، هو من عجائب الحيدري السبعة التي لم يناقشه فيها أحد على ما يبدو. هذه المهزلة وهذا التسيب المخجل لممثلي الشعب يجب أن يتوقف فوراً منذ الإنتخابات القادمة. ربما كانت الأحزاب الكبيرة ترى فيه ما هو في مصلحتها، أو لا تريد المواجهة، ولكن هذه الإنتخابات برهنت أن فساد النظام الإنتخابي قد يطال أحد أكبرها أيضاً فيصيبه بالضرر ويحرمه حقوقه الإنتخابية. الأمر بسيط: طالبوا الحيدري بأن يقوم بتمثيل عملية حساب لصوت واحد، ثم لتحسب عدد الثواني التي تستغرقها تلك العملية، وليضرب الرقم بعدد البطاقات، وليقسم على عدد نقاط الفرز، ويحسب كم يستغرق العد، بعد إضافة العمليات الأخرى من نقل البطاقات وفتح الصناديق الخ. بعد هذا إن تبين أن العد يستغرق شهر فعلاً، فلا بد أن العملية فيها خطأ كبير، ولننظر كيف يقوم بها الناس في إيران أو المكسيك أو زيمبابوي في نفس اليوم ولنقوم بنفس العمل. تأخير إعلان النتائج ليس سهلاً، إنه أمر خطير، يتيح للمتآمرين الفرصة لتخطيط وتنفيذ تآمرهم، ويتيح لمن يعرف النتيجة فرصة إضافية لعقد الإتفاقات وللإحتلال لتقدير الموقف واتخاذ الإجراءات، وكلها أمور تضر بالديمقراطية ولا أحد يقبلها على نفسه سوى العراق! لقد أعترضت المعارضة في زمبابوي لأن إعلان النتائج جاء متأخراً " ساعات" عن موعده!!

إضافة إلى تأخير الإعلان، فأن الحيدري كان يعلنه بشكل مراحل، وهو ما يتيح للإحتلال إن كان يفكر في تزوير أو حتى إنقلاب، أن يقيس ردود الفعل الشعبية والسياسية على تلك النتائج، ليخطط حركاته بشكل أفضل، ويقرر كم يمكنه أن يزور بلا مشاكل، أو إن كان لا مفر من إنقلاب مثلاً. لقد أسهبت في هذا الموضوع في مقالة سابقة. (6) التأخير في إعلان النتائج أمر يجب أن يوقف فوراً.

 

وجاءت النتائج، وكانت مخيبة للآمال بالنسبة للعديد من الكتل الكبيرة والصغيرة. واعترض الغالبية عليها من كلتة دولة القانون إلى الحزب الشيوعي، مروراً بأحزاب سنية وأخرى ترى في إسرائيل "مثالاً" يقتدى به. كان الشك بالتزوير شاملاً عاماً بشكل لم يسبق له مثيل. واعترض الجماعة بشكل قانوني مؤدب، فقامت قائمة الإعلام والأمريكان والأمم المتحدة! كيف يجرؤ هؤلاء على الإعتراض؟ سارعت السفارة الأمريكية بمحاولة فرض النتيجة ومنع أي اعتراض وشاركها ممثل الأمم المتحدة أد ملكرت وكأنه موظف في السفارة الأمريكية، على النقيض تماماً من الشهيد ميلو الذي كان حريصاً دائماً على إظهار استقلاله عن الإحتلال، فاغتاله "الإرهاب"! وانهال الإعلام العربي والأمريكي والأوروبي والسياسيين ايضاً بالتنديد بهذه الجريمة الكبرى في تقديم اعتراضات على نتائج الإنتخابات والمطالبة بإعادة العد، رغم أن عملية إعادة العد تعتبر من صلب النظام الديمقراطي وأساساً هاماً من أسسه ويعتمد عليها ليس فقط في فحص صحة النتائج من الخطأ والتزوير، وإنما أيضاً لطمئنة الناخبين, وغير ذلك من أجل اكتشاف ثغرات النظام الإنتخابي وتطويره، كما بينت أيضاً في مقالة سابقة. (7)

من هذه النقطة يجب أن نستفيد بتوعية الشعب بأن إعادة العد عملية تخدم الشفافية والديمقراطية وأداة ضرورية لردع المزورين عن محاولة التزوير، أو على الأقل عدم المبالغة فيها، إن عرفوا أن ذلك سيؤدي إلى إعادة عد يتسبب في افتضاح الجريمة.

 

فرج الحيدري فكان يصرخ بأستحالة إعادة العد، واستمر بالصراخ حتى بعد أن اقتصر الطلب على بغداد، وشبه عملية إعادة العد بعملية إعادة الإنتخابات، وقال بأنها تستغرق عدة أشهر "إن لم تواجه أية مشاكل"، وطبعاً كان الحيدري يصرح كما يشاء ويقدر الأسابيع والأشهر كما يشاء، فلم يطلب منه أحد أن يكشف لنا كيف حسبها، ولماذا يتم العد اليدوي في الدول الأخرى في نفس اليوم، ويستغرق إعادة العد لديه ثلاثة أشهر! لا تفسير لدي سوى أنه رد فعل لص مرعوب تخيل المشنقة تلتف حول رقبته!

 

من هذا يجب أن نستفيد بالشكل التالي: في الإنتخابات القادمة نطلب من رئيس المفوضية أو مجلس رئاسة المفوضية إن كنا سنستبدل الرئيس بمجلس، أن يقولوا لنا مقدماً كم تستغرق إعادة العد إن تم اللجوء إليها. فإن قالوا أرقاماً طويلة ، أشهر كما في عالم الحيدري السريالي، فعلينا أن نطالبهم بكشف حسابهم للعملية، وإن تبين أنها فعلاً كذلك، نطلب منهم أن يجدوا نظاماً آخر يجعل من العملية لا تستغرق أكثر من يوم واحد، يومان، بضعة أيام.. كما يحدث في بلدان البشر الباقية، فلا حاجة بنا إلى رئيس مفوضية يصرخ في نهاية الإنتخابات بأن إعادة العد "عملية مستحيلة"! لقد قرر أبو طالب، عمدة بلدية روتردام إعادة عد جميع مراكز أقتراع المدينة حين وجدوا شكوكاً في بعض الصناديق، واعتبرت الصحافة الهولندية ذلك عملاً ممتازاً وضرورياً لطمئنة الناخبين على الأقل، أما في العراق، فـ "العملية مستحيلة".

كذلك يجب تسهيل شروط إعادة العد، فالمفروض هو أن إعادة العد هي التي تقدم البراهين على سلامة العد أو تزويره، وليس الطعون، التي يفترض بها أن تقدم ما يدل على وجود شكوك معقولة وبحجم مؤثر فقط، وليس براهين على الخطأ والتزوير!

 

(نهاية الجزء الأول)

 

في الجزء الثاني من المقالة سنتناول تهديدات "العراقية" بالتدويل والفصل السابع وزيارات المسؤولين إلى دول الجوار ودور ممثل الأمم المتحدة والدروس المستخلصة منها.

 

......................

(1) http://65.17.227.70/Web/news/2010/5/557859.html

(2)  إستخدام الإلكترونيات في الإنتخابات ليست حضارة وإنما محاولات تزوير

      http://www.yanabeealiraq.com/articles/saieb-kalil190508.htm

(3) http://www.kurdistan-times.com/content/view/13685/86

(4)http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm

(5)هل وعدوه برئاسة حكومة بعثية مقابل تمديد المعاهدة؟

http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil050210.htm

(6) ما معنى تأخير إعلان نتائج الإنتخابات وهل يستحق القلق الذي يثيره؟

http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil200310.htm

(7)إحترام نتائج التزوير

http://www.yanabeealiraq.com/articles_0410/s_kalil010510.htm

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا