قصة قصيرة
شهادة رجل ميت
كامل الجباري
كان جسدي مسجى . حاولت تحريك يدي دون
جدوى ، بل إني فشلت حتى في تحريك بنان
أصابعي . أذهلني كثيرا الصقيع الذي اجتاح
جسدي ، رغم إننا في عز القيض ، وصار كل
شيء فيه سكونا مطبقا . رددت زوجتي اسمي
بطريقة غريبة ، لم أعهدها من قبل ، صرخت
بها :-
-
ما بك يا أمرآة ، لم تناديني هكذا ؟
أمسكت بيدي ورفعتها إلى الأعلى ، كما يحدث
في الأفلام القديمة ، ثم تركتها لتهوي إلى
جانبي كخشبة متيبسة . نضرت إلي نظرة بلهاء
ثم صرخت
-
يبوو يبوو ، لقد مات . لقد مات زوجي .
توالت صرخاتها وازدادت حدة ولوعة لتشق
سكون الليل .
-
اصمت بالله عليك ، فأن صوت الليل مسموع .
استمرت بالصراخ بل أخذت تضرب وجهها
وصدرها بعنف فيما امتلأت الغرفة تدريجيا
بمجاميع متعاقبة من النساء وكلما جاءت
مجموعة جديدة تلقتها النساء المتواجدات
لتبدأ جولة جديدة من الصراخ واللطم .
ويمكن لنا تصور حجم الصوت الذي تحدثه هذه
الأجسام الممتلئة وتأثيرها المتضخم على
أذني الملتصقة بالأرض .
-
أدرن وجهه إلى القبلة ! قالت أحدى العجائز
وهي تتمتم بكلمات في إذني لم أتمكن من
سماعها بسبب الأصوات غير المتناغمة مما
سبب لي صداعا حادا وشعورا بالقرف والغثيان
... اصمتن .. اصمتن ! تلاشى صوتي في ذلك
الصخب ، بل ربما لم يكن لي صوت أصلا . في
عين الوقت ، صعب علي كثيرا فهم حرقة هذه
النسوة فالكثير منهن لا تربطني به صلة
حميمية ، بل لم أر بعضهن في حياتي .
بابا .. بابا ، صرخت طفلتي الصغيرة
باكية وهي تشد جسدي إليها فحاولت تهدئة
روعها بالمسح على رأسها دون جدوى مما اسقط
في يدي فانتابني شعور حاد بالعجز والحزن
جاءت جوقة جديدة من النساء المعزيات فلفت
انتباهي من بينهن فتاة ذات قوام فارع وجسد
رشيق لم أر مثلها في مدينتنا قط . لا
أكتمكم سرا – فلا يليق بالميت أخفاء أي
شيء – إن هذه الحورية قد استولت علي تماما
، فقد بعثت الدفء في أوصالي الباردة وكان
لطمها اقرب إلى الرقص وقد تموج شعرها كما
تتموج مياه نهر غاف عندما تمر عليها نسمات
هواء ربيعي هادئ . همست :
-
امنحيني قبلة أيتها الفاتنة ؟
-
يا للعار ، لا يحق لرجل ميت أن يطلب شيئا
كهذا ؟
لم أر مصدر الأصوات الغاضبة التي عنفتني
وقد بدت كحشرجة النزع الأخير رغم ذلك
حاولت تسجيل احتجاجي ساخطا .
-
لماذا لا يحق لي ذلك ؟
لم يجبني احد فصمت مرغما واختلست النظرات
إلى وجه الفتاة الحورية فاضطرم بحمرة خجل
وقد أزداد رقصها رقة وانسيابية كلما حملقت
فيها .
احتشد عدد كبير من الرجال في غرفة
الضيوف والوجوم يخيم عليهم كأن على رؤوسهم
الطير بعضهم يدخن وآخرون يطرقون رؤوسهم
وعيونهم تحدق في الأرض كما انشغل البعض
باللعب بلحيته أو بمسبحته . قطع بعضهم
الصمت الثقيل فاسترجع ليؤمن آخرون على
استرجاعه ، فيما الوقت يمر بطيئا كزائر
ثقيل الظل . قال الحاج :
-
الله يرحمه ، لقد كان رجلا طيبا وشهما .
تعالت أصوات كثيرة تؤكد ذلك .
-
نعم ، مرة احترق منزل جارنا وكان المرحوم
أول من ...
تكاثرت التعليقات التي تشير إلى مناقبي
ونسبت إلي أشياء حميدة كثيرة . لم أسجل
رواية تروي عني مثلبة واحدة من مثالبي ،
نعم كنت صادقا وصريحا إلى درجة ما ، ولكني
أصبت بالذهول لكثرة ما نسب إلي من مناقب .
قلت في سري يبدو إنهم يتكلمون عن رجل آخر
.
أكثر ما أثار استغرابي مدح الحاج فقد
كان ديدنه مهاجمتي في غيابي . صرخت غاضبا
اخرجوا هؤلاء المنافقين فلا أريد مشاركتهم
في جنازتي .
لم يعرني احدهم انتباهه فاكتفيت
بالتذمر لنفسي . قال الحاج :
-
انظروا إلى الدنيا كم هي تافهة ولم يأخذ
منها الإنسان سوى الكفن . لا شيء ينفعه
سوى عمله ، فعليكم بصالح الأعمال .
أثنى الرجل ميسور الحال على قوله
مؤكدا .
-
القليل من يتعظ ، لا افهم سر تكالب
الناس على حطام هذه الدنيا الفانية !
نظر أليه البقال – وهو مستأجر لإحدى محلات
عمارته – نظرة غل دفين سرعان ما تلاشت .
لقد كان يرفع سعر أجارات محلاته بدون مسوغ
، ولكنه امن على قوله صدقت والله يا حاج
.. صدقت . تعالت أصوات الجميع لتأكيد ذلك
ما عدا الفنان الذي كان ملتزما بالصمت
وقسمات وجهه تظهر قرفا وتبرما وهو ينظر
بين الفينة والأخرى إلى الساعة الكبيرة
المعلقة على الجدار وقد أزعجه كثيرا البطء
الشديد لحركة بندولها الثقيل .
بدا لي واضحا إن العدوى قد انتقلت إلى
الآخرين فاخذوا يختلسون النظر إلى الساعة
وهم يعدون الدقائق لنقل جثماني إلى
المقبرة ومواراته الثرى .
-
لماذا تأخرتم بإحضار التابوت ؟
عنف كبير العائلة الشباب الذين كلفوا بجلب
التابوت فشعروا بالحياء وأخذوا يتبادلون
النظرات .
-
لماذا لا تجيبون هل أصبتم بالخرس ؟
-
إن خادم المسجد كان في حالة تستوجب الغسل
فانتظرناه حتى فرغ من ذلك .
يا لله .. يا الله ، تنادى بعض الرجال قبل
دخولهم إلى غرفتي . تريثوا هنيهة ثم دخلوا
مسرعين انحنى رجل مسن ليغمض جفني وسط
صرخات النساء التي تعالت بشدة يبوو ، يبوو
.. يبوو . انطلقوا بي إلى قبري ، بعد
تغسيلي ، ووسدني حفار القبرفي قبري ثم
اهال التراب وانصرفوا مسرعين كأن أشباحا
تطاردهم .
فجاءه لف الصمت المكان فشعرت بوحشة
مخيفة وخرجت إلى سطح الأرض فأنعشني الهواء
وصار جسدي جميلا وحيويا وامتلكت صفات لم
امتلكها من قبل . اخترق نظري المسافات
الطويلة ليتوقف عند مرج اخضر توسطته
نافورة ماء عذب والفتاة الحورية تستحم مع
طفلتي وعلى مقربة منها الفنان وقد اختفى
الوجوم الذي كان يسود ملامح وجهه .
اعترضني سكان المدينة الغاضبون ، يقودهم
الرجل الميسور الحال ، لقطع الطريق علي
وهم يحملون معاولهم لإعادتي إلى قبري من
جديد وكان كل شيء فيهم مقززا .
اخرج الفنان ، من بين أدواته ، نايا
جميلا واخذ يعزف عليه لحنا فتحول جميع أهل
المدينة إلى أصنام فتخطيتهم واعتنقت
الحورية طويلا وسط الحان الناي فيما كانت
الطيور تزقزق وهي تعتلي أعالي الشجر
الباسق .