سردشت عثمان لوركا: قتلوه تحت ضوء القمر الأخضر لكن ولدت أسطورة  حمزة الحسن  

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

الثلاثاء, 24. كانون أول 124
               

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

سردشت عثمان  لوركا:

قتلوه تحت ضوء القمر الأخضر لكن ولدت أسطورة

 حمزة الحسن

 

" عندما أموت، ادفنوني مع قيثارتي تحت الرمال

 عندما أموت بين البرتقال والنعناع،

عندما أموت، ادفنوني اذا شئتم في مهب الريح".

ـ لوركا.

 

" سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الأخير مع قتلتي وأدعو أن يعطوني  موتا تراجيديا يليق بحياتي ـ سأجلس في انتظار موتي".

 ـ سردشت عثمان.

 

" لم أقتله، ولكنه يستحق القتل".

ـ مسرور الضبع.

 من يتخيل ان سردشت عثمان مات أو قتل لا يعرف حيل الأطفال حين يتماوتون أو يمزحون مع الموت، لأن سردشت قبل أن يختفي أو كما يدعي البعض  قبل أن يُقتل ترك لنا وصفة مدهشة لموت شاعري وجميل وطقسي يليق بطفل جبلي أخذته الغبطة الى أقصى نهايات الهاوية وقرر هناك ألا يعود بل قرر أن ينام على عشب ندي جبلي في مساء مضاء بنور القمر تصور انه يمتلكه واحترق بالضوء كما تحترق فراشة وهي تستحم بالنار: الغبطة المهلكة للأطفال والعصافير والفراشات والأفكار البريئة وأمهار الخيول في الربيع وهي تركض لأول مرة. اذا قتل فعلا، فلاشك انه كان( يمضي، بطيئا، ناحلا، بسمرة القمر الأخضر ـ الخنجر في القلب والشارع يهتز ـ ومن كل صوب، أرى الخنجر في القلب ـ لوركا). 

كان غارسيا لوركا على موعد مع القتلة أيضا، قتلة سردشت، وتحت بقايا ثلوج تطل من جبال بعيدة، والسبب هو نفسه، لكي يوقف غناء المغني، ويكف العشب عن الخضرة، وتموت الحقيقة. لكن لماذا قتلة سردشت أطلقوا النار على فمه في حين قتلة لوركا على رأسه؟ أعداء لوركا خافوا من فكره لأنهم أعداء الفكرة، وأعداء سردشت خافوا من لسانه لأنهم خافوا من التعرية: قتلة لوركا أعداء سياسة وقتلة سردشت لصوص مال وثورة والجواب الواضح وموجود في مقالاته الأخيرة التي تعرض فيها للسلالة المقدسة، من باب الفرح والغبطة والنشوة بديمقراطية وليدة، أو صدق هذه الكذبة الكبيرة، ولم يردوا عليه بالكلمات بل بالرصاص في الفم: عقدة القتل في الفم( رمز اللسان الطويل) دليل القتل الثأري والحقد الناري الشخصي والقاتل معروف وطليق ومسلح وجبان وخائف ولا يستبعد أن يهرب (حارس السلالة) الى الأمام ويقدم أكباش فداء لتغطية الجريمة التي لا تغطى.

ليس هناك من ضرب موعدا مع الموت وقرر مواجهته والمضي اليه بقدمين راسختين وخطط له، في عالم الكتابة، سوى سردشت وقبله الغرناطي غارسيا لوركا. يقول سردست:(سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الأخير مع قتلتي وأدعو أن يعطوني موتا تراجيديا  يليق بحياتي ـ سأجلس في انتظار موتي ـ أعلم أن هذا هو أول أجراس الموت...). هناك قصة مدهشة لأرنست همنغواي اسمها (القتلة) عن شخص يجلس تاركا الباب نصف مفتوح وهو في انتظار القتلة وتكون أيامه هي هذا الانتظار لكن المؤلم أنه لا يعرف متى يصل القتلة. سردشت ربما قرأ القصة ووجدت أصداءً خفية  لها في رمز الانتظار وربما سألهم، ضاحكا، لماذا تأخروا كل هذا الوقت؟

 سردشت غاب أو كما يدعي البعض قتل خارج المدينة لكن لماذا ليس داخل المدينة؟ غارسيا لوركا قُتل خارج المدينة . سردشت حملته سيارة ولوركا أيضا. سردشت طلبوا منه أن ينزل ويمشي مع القتلة وكذلك لوركا طلبوا منه أن يمشي لكنه كان مفتونا بالقمر فوق جبال لا سييرا ـ هو القمر نفسه فوق جبال بيرمام في أربيل وخلف غابة حور كما لدى الاثنين.

يقول قاتل لوركا في اعترافاته حسب رواية فيلالونغا: (قلت له اركض. نظر الي وهو لا يفهم قصدي. أقول لك اركض. قال: بأي اتجاه؟ قلت: على خط مستقيم. ركض عشرين مترا. توقف. أركض أيضا. أصدرت أوامري: نار. لما اقتربت منه رأيت وجهه معفرا بالتراب ورأسه يتدلى. قال بصوت خافت: أنا ما زلت حيّاً. حشوت مسدسي وصوبته الى الصدغ. دفناه عند شجرة زيتون).

قتلة لوركا كانوا يخجلون من الجريمة ودفنوه، سراً، خشية الفضيحة، لكن قتلة سردشت تركوه، مكشوفا، في العراء لكي يرى الناس الجريمة: الدرس والعبرة والاستهتار. ماذا قال أحد أكبر المشتبهين بهذه الجريمة في شهادة مبكرة تسبق شهادة قتلة لوركا من ناحية طول الوقت والذين تواروا، سنوات، خجلا من الاعتراف؟ قال مسرور الضباعي بلا حياء وبعقلية قاتل محترف:( لم أقتله، لكنه يستحق القتل) لكن على ماذا يستحق القتل؟ الجواب مرة أخرى في مقالات سردشت الأخيرة.

الذي قتل سردشت عثمان، اذا كان قد قُتل بالفعل ولم يلعب معنا لعبة الاطفال الكبار في التخفي الأبدي، هو الفرح والغبطة والدهشة والبراءة، لأن سردشت رغم كل غضبه على السلطة القبلية التي قتلته كان يتوهم في أعمق أعماقه ان قتلته قد يترددون في الجريمة وربما فكر في ساعاته الأخيرة كما كتب بنفسه انه يستطيع عن طريق كلمات الوداع والتحذير والانتظار(انتظار القتلة) قد يوقف لعبة الموت وهذه طبيعة الاطفال الكبار الذين يتصورون ان الكلمات قد توقف الرصاص، وان القاتل قد يتردد من الفضيحة ويخاف أو في الأقل يخاف من الانكشاف ونسي سردشت ان قاتله لا يتردد من الكلمات لأنه لم يتعامل بها طوال حياته ولا يخاف من قوة لأنه القوة والسلطة ولا يخاف من الفضيحة لأن هذه طبيعة القاتل السلطوي في كل العصور وهذا الصنف من القتلة هم من مؤسسي نادي الفضيحة.

سواء صدق سردشت ان قاتله سيتردد بعد مقاله الأخير الذي لا يملك غيره كسلاح بعد أن تخلت عنه السلطة المحلية أم لم يصدق كان عليه في كل الأحوال أن يجهز نفسه لهذا( الموت السعيد) الموت البطولي الباسل، أو الموت التراجيدي كما أطلق عليه بنفسه، ولا يعرف القتلة ان هذا النوع من الموت هو الموت الوحيد الذي يحمل الى الأبد بذرة الحياة والضوء ويملك الأقدام المطاردة التي تلاحق القتلة في كل الأزمنة وكل الأمكنة، لذلك فإن الرصاصات التي أطلقت على سردشت عثمان كانت موجهة في الصميم الى سلالة هذا الكاتب الفارس والنبيل والطفل الذي لم يردع القتلة عمره الفتي(23 سنة) وصدقه العاري والجارح، صدق أبناء الصمت والثورة المسروقة من قبل الأغوات والمأجورين وتجار بنادق الإيجار، والى المستقبل، بل الأهم من كل ذلك ان السلطة التي قتلت سردشت  لم تعرف في نوبة حقد عاتية وحشية بدائية انها أطلقت النار على نفسها في نوع مجنون من الانتحار لا تقدم عليه سوى سلطة أمية جاهلة وشرسة تعمّدت بالدم هي وسلالتها وأحفادها.

ماذا قال هذا الطفل الباسل أكثر مما قاله غيره؟ ماذا قال لوركا الكوردي أكثر مما قاله غيره من عتالين ومثقفين وفلاحين ومصابين بالامراض والغازات والمنافي والفقر والإهمال والاقصاء والطرد من السلطة والثورة والمال واحتكار القوة والسلالة والحكم باسم سلطة قبلية أبوية متخلفة وعاتية ومتغولة وجبانة؟ ماذا قال هذا الطفل الفرح بلعبة الديمقراطية رغم خوفه منها ونقده لها بعد سنوات من الجحيم والرعب والصمت؟

سردشت قتلته ديمقراطية الأغوات والاقطاع وحكم السلالة لكي تقول له ولغيره( الأهم لغيره) ان لعبة الديمقراطية في هذا الوطن المصادر والمسروق هي لعبة للعرض والاستهلاك وليست للممارسة، لكن سردشت علم بذلك بعد فوات الأوان وبعد أن صار ترك اللعبة أكثر خطورة من الانغماس بها لأن تركها سيكون جبنا والمضي معها سيكون موتا، لذلك  طلب من قتلته في مقاله الأخير أن يمنحوه( موتا تراجيديا) وهو كل ما طلبه هذا الطفل الباسل والنظيف ولم يطلب أي شيء آخر، ولا أعتقد ان قتلته يعرفون معنى الموت التراجيدي لأن هذا النوع من الموت لا يعرفه سوى القتلة الكبار، قتلة المواجهة والصدام المسلح، أما قتلة سردشت فهم من صنف القتلة الصغار جدا الذين لا يترددون من قتل سجناء وأسرى ورفاق طريق وفلاحين مناضلين والسبب واحد: ان سلطة القبيلة هي سلطة مطلقة كسلطة الرصاص، والذي قتل أسرى مناضلين قبل أن يلوذ بالهروب من  ساحة المعركة عام 1975، إنما قتلهم لهذا السبب وليس لسبب آخر: الاحتكار ولكي لا يولد في تلك الجبال والسهول من هو على صورة سردشت عثمان يريد حصته من الوطن والفرح والمسرة والحرية، ومع ذلك ولد سردشت وقتل أو ربما اختفى الى الأبد وحضن لعبته القاتلة ونام معها كطفل سعيد.

 

 أيها المارون، أيها العشاق، أيها الشعراء، ايها المنفيون، أيها الأطفال، حين تعبرون مقبرة سردشت، رجاءً لا توقظوا هذا الطفل النائم والعشب يطلع من جسده الناقع بالدم لكي لا يفيق من هذا الحلم وهذا الموت السعيد. قتلوا جسد سردشت ولكن ولدت أسطورة: أيتها الأيائل لا توقظي الحبيب النائم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا