انقذوا رياض قاسم: عدالتنا لا تتهيج من البراءة بل من القتل حمزة الحسن

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

انقذوا رياض قاسم:

 

عدالتنا لا تتهيج من البراءة بل من القتل

 

حمزة الحسن

حين قرأت الخبر الذي يقول ان الصحافي رياض قاسم في السجن بتهمة القتل، خفت من الكرسي الذي اجلس عليه والحائط الذي أمامي والقميص الذي البسه والوجه الذي أحمله والوطن الذي انتمي اليه والأمل الذي أنادي به: كون رياض قاسم متهما بالقتل ـ مع ان هذه لم تعد تهمة بل هواية ـ يشبه خروج وحش من فراشة واخطبوط من رحم عنزة وولادة تمساح من قلب شجرة وظهور ناقد عراقي نزيه من أعماق التكية والحزب والرؤية، وبزوغ قمر أخضر فوق أسلاك سجن في الغسق.

ليس مهما أن يكون رياض قاسم قد قتل فعلا أم لا لأن القاتل والقتيل في عراق اليوم هما صورة واحدة لضحية واحدة والرصاص الذي يقتل قتيلاً قد ينطلق من مسدس القاتل لكن الزناد بين اصابع بعيدة غير مرئية أو مرئية لدرجة تصيب الرائي بالعمى لأن الحقائق الساطعة تعمي البصر كما يقول علماء الاجتماع. ما الذي حول هذا الكاتب والشاعر الذي ينشر شعره وحضوره ضحكا وبراءة وضجة عطر وصخب أطفال الى قاتل حقيقي أو مشروع أو سجين بريء في عراق ضاعت فيه الفواصل والحدود بين الشجاعة والرعونة، بين البطولة والانتحار، وصارت الجريمة براءة والبراءة جريمة في انقلاب غير مسبوق في المعايير بسبب جلسة الوزّان أو بتعبير عالم الاجتماع دورنكهايم: "الفوضى لا تنشأ من غياب المعايير بل من تداخلها وفي التفسير الشخصي". بهذا المعنى تصبح الشطارة ثقافة والبراءة جريمة والعشق جناية والسرقة ذكاءً والذكاء غباءً والعاهة شجاعة والسوقية علماً والخ وهلم جرا.

أن يكون رياض قاسم في السجن ـ فقط في السجن بتهمة القتل حقا أم باطلا مع ان العراق كله سجن ـ فهذه قضية كبيرة لو حدثت في دولة مدنية بتقاليد قوية ورصينة ومؤسسات محترمة، لدارت حولها حلقات نقاش تضم خبراء في علم النفس والشرطة والسياسة والثقافة والجريمة والاجتماع والتربية، لأنها ليست جريمة أو تهمة قتل عادية بكل المقاييس، لكنها ستمر مثل كل العلامات المنذرة بولادة الوحش أو الغوريلا التي توقعنا ظهورها، مبكراً، في الهدوء العام المرتب والقسري والخادع: الغوريلا التي ستخرج وهي تستحم بالدم في الشوارع.

مرة في السويد دخل طفلان حاوية نفايات ولم يتمكنا من الخروج وماتا، خنقا. ماذا حصل؟ خرجت وانا في النرويج في الصباح التالي للحادث فلم أجد حاوية النفايات الكبيرة العامة لأنها سحبت في الليل من كل الدول الاسكندنافية في اجراء فوري بين عدة دول لكي لا تتكرر هذه الفاجعة، لكننا منذ قرون نغرق ونعيش ونستحم ونفكر ونتقاتل ونتناسل ونختنق في كل أنواع النفايات الفكرية والسياسية والاخلاقية والثقافية من دون حركة حقيقية للخروج من حاويات نفايات التاريخ ليس عن عجز في الخروج بل من إدمان على الشم لأن البديل عن كل نفايات التاريخ هو العطر والعافية والسوية وهذا أمر خانق ويحتاج الى مران وتقبل، ومن عنده هذه القدرة على تحمل ألم الحواس على عطر مباغت؟ ماذا يفعل من يعيش جوار ماكنة طحين أو معمل خراطة اذا توقف الضجيج؟ لا شيء أبدا لأن الضجة العاتية المستمرة كالجيفة العاتية المستمرة تُنسى وتصبح جزءاً من البناء العضوي للحواس المعطلة.

لو لم أعرف رياض قاسم جيدا معرفة شخصية وعائلية ومهنية وثقافية لمر الحدث كما مر على غيري، كما تمر الأحداث علينا جميعا كأحداث عادية في نشرة أخبار، لأننا من عطل الحواس صرنا نأكل قتلى ونشرب دم القتلى وننام على حرائق من دون أن يحفز الأمر على شيء ـ على أي شيء، بل أحيانا يحفز على الضحك: هل سمعت خبر اليوم؟ يرويها ضاحكا ويتابع: أكثر من اربعين قتيلا في انفجار، ويكون جواب الآخر: والله تصورت عندك غير هذا الخبر، هذا عدد قليل. لو ان مثل هذا العدد من الفئران قتل في دول أخرى بهذه العلنية لأحدث ضجة في الرأي العام. 

مرة كنا نجلس في مطعم ليلي على حافة بحيرة في غسق رماني متوهج بالضوء والصداقة والثلوج البعيدة والفرح والنبيذ: قاسم شريف وكاترين والجندي الايراني في اللواء المظلي 55 الذي اجتاح المحمرة في نيسان عام 1982  (كنت على الطرف الآخر من الساتر الترابي)وكريستينا بطلة سيرتنا الروائية" الأعزل" وهؤلاء جميعا( وأنا معهم) من شخوص رواياتنا حتى انني لم أعد أميز بين الشخص الروائي والواقعي( الخيال واقع أيضا) حين قال قاسم شريف إن عدد قتلى معارك حقول مجنون عام 1985 (كان يروي وهو يأكل، باسماً) أكثر من مئتي الف ضحية من الطرفين، فصرخت كريستينا خارجة من المطعم لأن هذا العدد يعادل ثلاثة ارباع سكان العاصمة أوسلو، وزجرْته بقوة على هذه الخفة العراقية الشهيرة قائلا:" هذه اللغة المشوهة لا يفهمها غيرنا. نحن أدمنا على الموت". 

أن يكون وصل الدور الى سجن( مجرد سجن) رياض قاسم بتهمة القتل، فهذا يعني ان جرس الانذار قد تحطم من كثرة الرنين ونحن في أول الطريق( أم في المنتصف؟) لوقائع غريبة مزلزلة لا تفسر الا بعقل خضير ميري ومن هم على صورته لأن عقل خضير ميري( لا أعني بالعقل التعبير الدارج عن العقل وليعذرني ميري من مفردة العقل القذرة كما تقال وتمارس اليوم) قادر على التقاط الصراخ البعيد قبل أن ينطلق من الحناجر كطائر البطريق الذي يعيش العاصفة قبل الهبوب ويرتعش وبعد الهبوب وينطوي على جسده كصوفي في لحظة صلاة. هناك اشارات كثيرة تأتي ولكننا لم نعد نسمع، لم نعد نشعر، لم نعد نحس، نفكر، نتخيل: هناك عطل بنيوي في نظام اجهزة الرصد والتقبل والاستقبال العضوية جرى سحقها وتخريبها على مراحل بكل أنواع المفخخات السرية والعلنية من دون أن يعلم الا مجانين العراق ومن على الحافة من هامشيين وصعاليك ومشردين وأطفال ، وتعطيل الاجهزة العضوية هذا تم بمفخخات الثقافة السائدة وبالتاريخ المغلق والبنى المعرفية المجترة والتعليق على نشرات الاخبار وبالضحك على القتل والمزاح على الموت خلال الطعام واليقين الأرعن ان المشكلة في السياسة وليست في مكان آخر: كمن يبحث عن سجادة صلاة في الكلجية.

أعرف رياض قاسم جيدا ومنذ اكثر من ربع قرن يوم كان فراشة ويوم كنت أذهب منتصف الليل الى منزلهم في حي سومر في بغداد حين لا أجد مكاناً للنوم كمن يذهب الى داره، متأخراً، من دون حرج، وأسمع صوته عبر سياج الحديقة صاخبا مدويا طفوليا كما لو انه يطمئن المارين والعابرين والتائهين والمشردين والعزل والقلقين، كما لو ان هذا الصوت( الملعلع في ندوات اتحاد الادباء منذ السبعينيات) وفي الشوارع والصحف والصالات والحدائق( ماذا يفعل رياض الآن في السجن؟) صار فناراً للسفن على حافة بحر مظلم( والعراق في ظلام طويل، دائما) وكنت أجد معه اضافة الى شقيقه وصديقي زهير قاسم( مصمم في الصحف) المرحوم علي الجزائري والد الكاتب زهير الجزائري( وهم أقارب وانساب) والجزائري الأب شخصية عراقية أصيلة يشتهي الانسان أن يكون كل الآباء على صورته وهو من شخصيات الزمن العراقي النبيل المنقرض( كنت اخبيء نقودي عنده عند استلام الراتب الشهري في الصباح وعند المساء أسحبها وفي الصباح التالي استدين منه وكان رده الأبوي الوحيد: انت تظل مخبل؟) أما الشقيق زهير قاسم فكان يتركني أنام ويتسلل الى جيبي ويسرق خمسة دنانير كل مرة ولا غيرها وحين أساله في الصباح" ولك عيب تسرق ضيفك؟" يكون الرد ضحكا وهو يفتل شاربه عادته الشهيرة" بشرفي أدفع الحساب اليوم بنفسي"، وفي كثير من الأحيان كان بيت رياض قاسم يضج بالنخبة الأدبية الرصينة: كان بيته مأوى ومدرسة وفناراً وكان رياض قاسم يتنقل بين الجميع بلا فرق بين صعلوك مشرد أو وكيل وزير أو رئيس تحرير ومرة سمعته ينادي عبد الأمير معلة الذي كان خارجاً من مقر اتحاد الادباء وقد توقف على صوت رياض لكنه حين رآني خارجا من المرحاض ترك وكيل الوزير ينتظر بل نساه وهو يقلب في وجهي قائلا على طريقته العاصفة البريئة الصاخبة" هاي انت بعدك حي؟". 

انقذوا رياض قاسم من اجل المسرات القديمة، من أجل براءة رياض التي تعلو على كل شيء، السلطة والقتل، من أجل الرأفة والرحمة والسهو اذا كان الأمر صحيحا، ومن أجل العدالة وما تبقى من نبل اذا كان الأمر خطأ، من أجل الأمل الباقي في أن يكون في العراق في هذه المرحلة بريئا واحداً في الأقل لكي نميز من الصوت والعطر والرائحة والعفوية الجمال من القبح، بل انقذوه من السجن والموت فيه لأن رياض طائر نقي جدا وبريء جدا وحساس جدا.

قتيل واحد في لحظة غير محسوبة لن يزيد من أرقام الموتى على المزابل والطرقات، وقد ترتكب العدالة خطأً في اطلاق سراح قاتل في لحظة تهاوى فيها الجميع الى الهاوية، لأن القاتل الحقيقي يدفع الجميع الى الجنون والسعار ويعطيهم المبرر والسلاح والعوز والقلق والعدمية واليأس، ويضع الجميع في مواجهة الجميع، ولا خيار في الأمر إما قاتلاً أو قتيلاً، لكن خطأ العدالة في اطلاق سراح رياض قاسم سيكون اطلاق سراح للأمل والبراءة والعفوية والجمال ولحفنة قيم باقية، ولن يكون صعبا على القضاء العراقي هذه الأيام من ارتكاب مثل هذا( الخطأ) حيث القتل القضائي وتحت مظلته صار كالصيدليات الخافرة يعمل ليل نهار، كما ان خروج رياض، حراً، من السجن لن يجعل العدالة العراقية ترتعش من الشبق لأن شبقها العضوي والبنيوي والتأسيسي والدستوري، سوف يكون حامياً لها من القذف( على الهوية؟) لأن عدالتنا لا تتهيج من البراءة بل من القتل.

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا