حمزة الحسن قاتل متجول: أكثر الأشباح وضوحاً

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات الروائي العراقي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

قاتل متجول:

 

أكثر الأشباح وضوحاً

 

حمزة الحسن

 

في كل يوم تقريبا يتم القبض على أمير جماعة مسلحة أو سيارة مفخخة أو على متورط في جريمة قتل أو عبوة ناسفة لكن مجهولا على صورة شبح يصول ويجول في البلاد ويعيث خرابا وفسادا وقتلا واغتيالا ولا يجرؤ أحد لا على القبض عليه ولا على التصريح به حتى لو همسا الا في حالات نادرة مع انه أكثر الأشباح وضوحا وحضورا وغطرسة.

 

هذا المجهول يقتل على راحته من يشاء ويقطع الماء والكهرباء ويتحكم في السياسة والمال والأمن والأرحام والمزاج وهو طليق اليد لكنه صامت صمت القتلة الكبار من خريجي مؤسسات الموت والمافيات العريقة والأجهزة السرية المحترفة وهو انتقائي في القتل كما في الحرب النفسية: على سبيل المثال يختار شهور الصيف الحارة كوقت مناسب لقطع التيار الكهربائي لكن ذلك يظهر بصورة مشكلة تقنية، ويقتل علماءً وأطباءً وصحفيين ورجال شرطة ونواب معارضة وصيادلة ومهندسين وخبراء ذرة وضباط جيش بالتقسيط كجزء من تنظيف محترس ودقيق ومتباعد، وحين يسود الهدوء النسبي في البلاد، ويطرح موضوع الاحتلال كحوار مركزي أو حين تكون السلطة السياسية في خطر الخروج عن المسار، يظهر هذا الشبح الغامض باقدامه الثقيلة ليسحق كل شيء في طريقه نهارا جهارا وفي وضح النهار وفي سطوع القمر دون أن يترك أثرا سوى الحرائق ورائحة الموت، وفي الكلام السلطوي عن هذا الشبح المتجول والمخيف يجري الحديث عنه بربع لسان أو بلسان غاص بحصاة كبيرة كما لو ان التصريح باسمه يكون نوعا من الإثم.

 

لم يقبض عليه أحد ولا اسم له في الظاهر ولا عنوان وهو خبير متاهة ونجار دسائس ومحترف نسف ومدبر مكائد متجول وقاطع أعناق وأرزاق وهو بالمناسبة مثقف يعرف تاريخ البلد أكثر مما يعرف غيره وقرأ نشوء الأديان فيه والأساطير ويجيد لغته أكثر من بعض كتابه. رغم طلاقة اللسان والخبرة والقوة والشر لكنه لا يتكلم الا بلغته الخاصة، لغة كاتم الصوت، والعبوة، خالقا كل يوم فوضى مبتكرة نركض خلفها ونحلل اسبابها ونشرح دوافعها ونعالج أطرافها وحواشيها لكنه تلك اللحظة يفكر في الخطوة التالية لكي نغرق من جديد في متاهة جديدة وهكذا.

 

هو ليس شخصا ولكنه مؤسسة فوق المؤسسات وهو ليس قانونا ولكنه فوق القوانين وليس جيشا ولكنه أصابع خفية قادرة على تحويل عشرات أو مئات الناس في لحظة واحدة الى غبار أو طحين أو ضباب أو بخار عفن وهو الكائن الوحيد الذي يعبر نقاط التفتيش والحراسة والأسوار والحواجز والبيوت والمكاتب في مروق الظل أو الشبح أو النسيم أو الموت وفي رشاقة صلال الصحراء.

 

قادر على أن يتكلم كل لهجات البلد من الجنوب الى الشمال ومن الشرق الى الغرب وبالعكس، والصلاة حسب المكان والطائفة والمذهب والدين ويستطيع الكتابة باصابع غيره كما يريد ويقلب الحقائق كما يحب ويشتهي وخلط الاوراق في الوقت المناسب وغير المناسب لأن هذا الخلط محوري في صناعة التشوش ويمكنه تحويل الوضوح المباغت في اية لحظة الى عاصفة رمادية لا أحد فيها يرى أحدا.

 

حين تُسرق الأموال، يسارع قاموسه الخاص الى تعبير في غاية السخرية مثل:( لا أحد يعرف أين ذهبت أو اختفت بطريقة غامضة) ومثل هذه التعابير في اي بلد آخر كانت ستثير ثورة عارمة لكن خبير تقليم الاظافر يعرف كيف يدير القاموس كما يعرف كيف يدير الواقع، وحين تحوِّل طائرة عدة عوائل نائمة في الليل الى طحين أو الى لحم منثور يسارع قاموسه الخاص الى تعبير مماثل للأول مثل:( هدف خاطئ أو معلومات غير دقيقة) وحين يُقتل مجموعة من الناس في الشوارع ينتج القاموس هذا التفسير: ( تقاطع نيران) أما حين يتردى الوضع السياسي المتردي أصلا يقوم القاموس بتلميع الوضع على الشكل التالي: ( صراع سياسي على السلطة، أو: تردي الوضع الأمني) كما لو ان هذا الصراع وهذا التردي من ظواهر الطبيعة كالغبار والعواصف الترابية الدورية والمطر وليس نتاج فوضى مبرمجة وقوى لاجمة ومراكز نفوذ متحكمة، ولكن التعبير الأكثر اذلالا وتحطيما للمشاعر هو تفسير كل هذا الجنون العارم المنفلت على انه مرحلة عبور وهو التعبير المألوف والقديم في سنوات الحصار في المرحلة الدكتاتورية كما لو اننا لا نعبر من حقبة الى حقبة الا على قطار موت ينقل جثثا ومراحل تاريخ أو قارب قراصنة وليس الانتقال السلمي من حقبة الى اخرى كغالبية شعوب الأرض.

 

حين يدخل منطقة، يخرج ساحقا كل شيء ويغير شكل الأشياء والأجساد والوجوه والسيارات والأشجار والمشاعر ويقلب الأعلى الى الأسفل وبالعكس، وتصبح الرؤوس أحذية والأحذية رؤوساً، ومن كان قبل لحظات بكامل عافيته واناقته تم تقريمه الى الربع أو تحول، بعد الانفجار، الى وضع السائل أو البخار أو الى نوع من الجنس المشوه، وفي سلوك احترافي يلجأ الشبح المرئي والواضح الى محطات التلفزة عن طريق الاذرع والأعوان والاتباع والأجراء والمغفلين والثول والضجرين والمبرمجين والمنظمين وغيرهم الى وسيلة توزيع مسؤولية الجريمة على عشرات الجهات والمنظمات والأفراد لكي يضيع القاتل الحقيقي: هذا يحدث بعد كل مذبحة حتى يصرخ المواطن أو شبه المواطن أو القتيل القادم قائلا إنه لا يعرف من هو المسؤول في هذا التداخل والالتباس.

 

بهذه الطريقة تستمر الأقدام الثقيلة في سحقنا كل يوم وحين يغيب هذا القاتل المتجول يوماً نقوم بالمهمة نفسها طوعاً أو جهلاً أو إدماناً في سحق أنفسنا بعد أن تحول السحق المتنوع الأشكال الى نهج حياة وثقافة بل وشجاعة وجرأة ولم يعد بحاجة حتى الى تبرير لأن التبرير سلوك منقرض يعود الى مرحلة قبل تفسخ الضمير وموته شبه الكلي، وحين يموت الضمير ويتقدم الذكاء يكون أي وطن عرضة للزوال كواقع وكقيم وكتاريخ وجغرافية، ايضاً.

 

قبل أيام كنت أتحدث على الهاتف مع كاتب وشاعر عراقي حين روى حادثة تقول ان القطط في الشامية تعاني من طفرة وراثية أو من نكوص جيني وشرعت، أيام الحصار، بأكل الحشيش، وكان ردي في اللحظة نفسها: لا غرابة في الأمر، فنحن والقطط نعاني من أزمة مشتركة وكل واحد منا صار يأكل نتائج السياسة على طريقته: قطط الشامية وربما غيرها تأكل الحشيش ونحن نخبة هذا الوطن في الداخل والخارج نأكل التبن في طفرة ثقافية مضادة أو من نكوص تاريخي في وضوح تام والقاتل المتجول وحده يترك خلفه الحرائق والجثث وغموض الاموال المنهوبة والتفسيرات المستعجلة من دون أن يقبض عليه أحد مع أنه يقبض على الجميع من كل الأمكنة، كل الأمكنة.

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال