حمزة الحسن البيان الشروكي: سنجعل جلودهم أحذية

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات الروائي العراقي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

البيان الشروكي:

 

سنجعل جلودهم أحذية

 

حمزة الحسن

 

الى زعماء العراق وابناء الزعماء وقصور الزعماء وكهرباء الزعماء وخيولهم وكلابهم وحراسهم وأحفادهم وأحذيتهم وكراسيهم نرفع لكم نحن شروكية هذه البلاد وحفاتها من قلب الأكواخ والنفايات والمصحات والمنافي الداخلية والخارجية، من الأضرع الخاوية، حقول الجفاف، الترع اليابسة، من موسيقى الأنين والسعال والدم والسجون، من خلف ما تبقى من نوافذ وأمل، من القطارات الصدئة، أعمدة النور، مزارع الرز الذابلة، من الأورام، من خلف الاسلاك الشائكة في السجون، من أعماق الكوابيس، من الحنين المقتول، من  مزابل الجثث، ورائحة الشواء، الشكر والتحية والسرور على هذا القدر المصنوع من البرامج والغفلة، من السهو والنسيان والبلادة، من التاريخ المغلق، ونقول لكم كل نهار جديد وأنتم بخير يا غطاء هذه القدور وياركعة البابوج لأنكم لو كنتم في أي بلد في العالم لشدوا عليكم بدل الكلاب "سروج" في التزحلق على الجليد.

 

نحن السعال المخنوق والقطارات المنقلبة في العشب المحترق وقناني الحليب الفارغة والمجاري الآسنة، نحن المواقد المطفأة في الليل، القدور الفارغة، الأصابع المرتجفة من النعاس والصبر والذل، نحن التاريخ المنسي والأضرحة المهملة، نحن الحكايات المتروكة على الطرق وعلى المشانق، نحن سيارات الاسعاف المسروقة، ومعالف الحيوانات المسرطنة، نحن الطفح الجلدي، وحرب السنوات التي مرت والسنوات القادمة، نحن القطيع الجاهز للموت والرقص والاحتفال في كل الأوقات، الكلمات المبتورة، الوصايا المستهلكة، الشعارات المستحمة في مياه المجاري، الأمطار الصيفية الغادرة، نحن اليتامى والأمهات والمواشي المنتظرة على أبواب المسالخ، الطرق المسدودة، البيانات المبقعة بالدم والفجيعة، نشرة أخبار الليل والنهار عن موت مضى وآخر في الطريق، نحن قردة داروين، وأحفاد آدم، نحن السعالي المطرودة من المأدبة الكبرى، الثعالب المحاصرة، الأعضاء المسروقة من التاريخ والمشرحة والمزابل والسرير، نحن الطلق الذي لا يأتي، الأجهاض المزمن، علامات المرور المعاكسة، الغبار غير المرئي، نعلن للعالم ان هناك شبحا يجول في شوارع العراق اسمه القتل، ليس الموت الطبيعي المنقرض، بل القتل المبرمج، بالرصاص أو بالجوع أو الخديعة أو الصمت أو الضحك.

 

نحن الرؤوس المقلوبة، الحبال القادمة، الحيطان ومفارز الاعدام المنتظرة، نحن نهايات التزوير ونهايات الاحتيال، ونهايات الانتقام، ونهايات الفجيعة، نحن الذئاب الخارجة من أعماق الانسان بالاذلال الطويل، النهب الطويل، الموت الطويل، القهر الطويل، مواعيد العشق الملغية، الاجساد المنسوفة، فئران التجارب في السجون وفي المستشفيات، اليورانيوم المنضب، السمك المطعون بالاسيد واصابع الموتى، القصب المقطوع، الرغبات البيض الحبيسة، الأعراس المهجورة، المخلوقات المطوّرة الى وحوش من غدر الايام، سلع الاسواق السياسية الرخيصة، الاجساد المفخخة بالكذب والنفايات والمسامير، السعال المنسي من الشعر، نحن عصافير الديوانية وكربلاء واربيل المطرودة من الشعر العراقي لأنها لا تشبه عصافير هانوي وموسكو وبرلين وبكين، نحن القبج الكردي المسروق العش والثورة، الإوز الجنوبي المسروق المياه والهوية، نحن الصدأ المتراكم، مقالات المع والضد، جيل الحرب الأهلية، جيل الولادات الخائبة، جيل  أمهات عشن ومتن بالثوب الأسود، حيطان الطين الرمادية، شوارع الفوانيس الملغاة، ابناء الصمت والمزبن والثوب الواحد، نحن أبناء العوز والنبل والخوف والغرائز المطفأة، لم نعد نعرف ماذا نريد وماذا تريدون، لأن شهوة الحياة المنتزعة، الرغبات الصدئة، الآمال المتعفنة، حولتنا الى أنابيب للمياه الآسنة، وجلود مسلوخة متنقلة كأعياد الصيف القديمة، كالاراجيح المنقرضة، كغزالة القمر الوهمية:لم نعد نعرف الحرب من السلام، ولا نميز بين الارهابي والمسالم، والثوري واللاثوري، ولا الطائفي ولا الحداثي، لأن الجميع في قطار الموت المشرف على الهاوية فقدوا القدرة على معرفة حس الاتجاه وسلامة الخطوة.

 

لا نريد بعد اليوم أي شيء، لا صالونات حلاقة ولا لحى، لا ليبرالية ولا طائفية ولا علمانية ولا شيوعية ولا شرقية ولا غربية ولا نريد الحرس الوطني ولا الشرطة ولا العمل السياسي ولا المسلح، لا نريد الشعر ولا نريد التتن، لا نريد البناطيل ولا العمائم، لكننا نريد الهاتف الخلوي لأنه يربطنا بالمشرحة والطوارئ، لا نريد المسالم ولا المقاوم، لا المنفتح ولا المنغلق، لا نريد المرجع الكبير ولا الصغير، كلنا مراجع في المقاهي والحانات، لا نريد الاحتلال أن يبقى ولا نريده أن يرحل، لا نريد الشروال ولا العقال، لا نريد التفكيك والتحليل ولا الضباب، نريد الشتائم والطبل والهز والسراويل الممزقة من الخلف لكي نرقص في مأتم هذا الوطن المقبرة، الوطن العازل، الوطن المشرحة، الوطن القبو، لأننا أبناء القبو النفسي والفكري والعقلي ولا نحب الهواء الطلق لأنه يجرح الأعماق الرطبة من عفونة التاريخ، لا نريد أحذية بعد اليوم لأن الاشباح تتجول عبر الأثير، نريدها فقط في مواسم المراثي وطقوس التفجع وفي الكتابة والتنبيه في المحاكم والايقاظ، لا نريد الصيف ولا نريد الشتاء ولا البرد ولا الحر. جلودنا متجلدة من العصي والتخوزق والكوارث وحكايات القتل، لا نريد الحكومات بعد اليوم ولا نريد الدساتير ولا نريد الثكنات لأننا لسنا بشرا بل مشرحة وصيدلية وحفنة مدلكين في حمام وليس في وطن حقيقي وحيوانات تجارب وفرقة خشابة متجولة وقطاع طرق.

 

نحن اللثام الأبدي، الرعب المزمن، العشق المروض، السُكْر غير المرتوي للسعادة المجهضة، الحنين الذبيح للمائدة والعائلة والمسرة والضوء والانجاب والمشي والبراءة والوضوح، لا نريد المصالحة ولا نريد الهدنة، لا نريد الحياة ولا نريد الموت: نحن "الأنا" المنفجرة الطافحة بخراب التاريخ، الصدأ المتراكم عبر قرون التداعي والتكرار والصقل، نحن أجيال التلقين، نحن المحراب المعد للخديعة والصلاة والقتل والسيف والخطاب، نحن الورطة الماشية، والثقافة المستهلكة، نحن الوطن المقهى، الوطن المشرب، الوطن الانقلاب والبيان الاول، نحن قرون الثور الوهمية، نحن الاغتصاب المستمر، دور العبادة المستباحة.

 

من العقم صرنا لا نلد الا جرذان الكوارث وخطابات الموت والعهر والوشاية ولم نعد نخشى أو نخجل لأن وجوه الصفيح لا تعرف الحياء، نحن مشروع الهاون والعبوة الناسفة، أعقاب السجائر في أجساد السجناء، أحواض التيزاب، شاحنات نقل القتلى، نحن الوشاية المزمنة، نحن قاموس الكراجات في الاختلاف، نحن الانتحار المؤجل كل لحظة، نحن غياب التضامن حتى بين القطعان المداهمة، خبراء التدليس وعشاق التقاليد والفراشات على الورق، العاصفة المختبئة القذرة خلف اللاوعي ما أن ينام الضمير.

 

نحن الاوز المهاجر من الأهوار بعد الجفاف، الضمائر الميتة لعدم الاستعمال، الاصابع المنسية الا في مواكب الوجع الكبرى، الخدود الممزقة المهجورة من الأظافر، الأرق الدائم، الخيول المنسية على تخوم الصحراء في حرب لم تقع الا في حكاية، مصاطب المحطات تحت المطر المنتظرة في المساء على صخب العصافير في برك الماء، الحافلات المسروقة.

 

نحن الأسمال المهملة، أقدام الأشباح التي تجوب الطرق، نحن الطرق التي لا تنتهي، السطر الأخير المتوقع لحكاية قرون العذاب، السياط المرفوعة عبر الزمن، نحن إدمان الهلاك، تنابل هارون الرشيد، شخوص علي الوردي، ثوار الجواهري، نحن انتفاضة الجسر وخدم المخابرات الدولية، نحن الاغاني في الطريق الى المشانق ووشاة الجيوش الغازية، نحن مجانين فرويد وأحفاد النجاشي الحارثي( اذا سقى الله قوما صوب غادية ـ فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا ـ التاركين على طهر نساؤهمُ والناكحين بشطي دجلة البقرا ـ السارقين اذا ما جن ليلهمُ ـ والطالبين اذا ما أصبحوا، السّورا).

 

الى زعماء هذا البلد وأبناء الزعماء وأحفادهم: نحن الدنابك الجاهزة، نحن الهجع المرتجل الفوري، الشطح الآلي الى الأرض، الرقص السريع على كل الأنغام، الحقول اليابسة، المناديل الضائعة في المحطات، مخالب الصقور المسمرة على الحيطان في المتاحف المسروقة، الكلاب العاوية على قمر بعيد، الخيول الميتة في الوحول، النطف الهاربة، الأسرَّة المرمية في العراء، العراء المرمي في عيون الأطفال، الاطفال المرميين في الشوارع، الشوارع المرمية على الأسلاك من الانفجار، الانفجار المرمي على القلوب المقذوفة على الأشجار، الأشجار المحلقة في الريح كالشرف، كالضمير، كالوطن، كالثروة، كالسيادة، كالأمانة، نحن جيل الصرائف والروث والأموال المنهوبة نتنازل لكم اليوم عن كل شيء ليس عن كرم بل عن عجز ولكننا سنحوّل قبوركم يوما الى مباول. لن تمحوا ذكرنا. لسنا رملا يتطاير في الريح. لسنا ضبابا يتبدد. لسنا غيمة صيف، لكننا سنجعل جلودكم يوماً أحذية لأطفال على وشك الولادة كما جعلتم جلودنا أحذية لجنرالات الغزو.

 

هامش:

ـ الشاعر النجاشي الحارثي: توفي سنة 40 للهجرة قبل قراءة علي الوردي للمجتمع وكشوفات فرويد وخطابات "حارس السلالة" ومقالات ماو تسي تونغ في التناقض.

ـ "اذا كنتم تمثلون المستقبل، ستكون جلودنا أحذية لجنرال قادم" عبارة وردت في روايتنا" سنوات الحريق" الصادرة عام 2000.

 

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال