رواية أوراق الزمن الداعر:
فضيحة بلون الرماد
حمزة الحسن
1
ليست رواية صلاح صلاح" أوراق الزمن
الداعر" حكاية تروى أو يمكن أن تلخص لأنها
فضيحة من رماد تلقى على الوجوه، وهي في
الوقت الذي تنثر فيه سيرة حياة طفل
الرواية الذي يرفض الافصاح عن اسمه منذ
السطر الأول( لأن الأمر ليس بتلك الأهمية)
حتى بعد أن تجاوز طفولته وهو تعبير لا يشي
بأكثر من تجاوز السنوات ومرور المراحل ولا
يقطع بتجاوز حقيقي وفعلي للطفولة، لكن هذه
الرواية هي أيضا محاكمة روائية لا يمكن أن
تمر سريعاً رغم ما توحي به تقاليدنا
وتجاربنا الأدبية والنقدية، وما يوحي به
الصمت، الصمت الآز، أو بتعبير مدوّر"
التغليس" الذي قوبلت به حتى اليوم، وهو
تغليس من نوع الظلام الذي يضيء النجوم
البعيدة والمنعزلة والمكتفية بجمالها أكثر
مما يخفي.
نحن أمام تحول حقيقي لطفل الى ذئب بشري،
الصورة السرية للطفل العراقي، السيرة غير
المروية، المختبئة في العتمة وفي التجاهل
وفي التحاشي وفي الجبن وفي الخوف الذي يصل
مرتبة الذعر من رواية العار: العار المعاش
يكون مقبولا لكنه حين يروى يصبح فضيحة وهي
لازمة كل ثقافة تعاني من العطب والازدواج
والنمطية، لكن صلاح صلاح لا يروي حكاية،
مرة أخرى، ولكنه يتذكر، بأقصى قدر من وضوح
الرعب والجمال والانتهاك، سيرة شخصية لطفل
ما، قد يكون الروائي وقد لا يكون، فليس
هذا مهماً، كما ليس مهما اسم الطفل
الراوي، لأننا نتعامل مع نص روائي خارج
على القانون، قانون الرواية العراقية
بصورة خاصة، وقانون السرد التقليدي،
وقانون الحشمة المرفهة الوضيعة العدو
الرئيس للرواية، مع أن تعبير" خارج على
القانون" سيكون مزحة سمجة بالنسبة لصلاح
صلاح حاضن طفل الرواية ورواية الطفل، لأن
عملية التحول من طفل الى ذئب تمت باسم
القانون الحامل عدة اسماء وحسب الظروف.
منذ الصفحة الأولى نعثر على طفل الرواية
في واحدة من محطاته الأخيرة ـ في عيادة
طبيب نفساني ـ في منفاه الجديد بعد أن
يكون قد فر من البلاد وكبر. نقول في "
منفاه الجديد" لأن المنفى القديم كان
الوطن، بل قد يكون المنفى الجديد هو أهون
المنافي: في المنفى الأول، الوطن، تم
تحويله الى ذئب بشري يعوي( سنصادف كثيرا
عبارات من قبيل: كنت أعوي، حاولت أن أعوي،
سمعت عواءً، وعلى صفحات متناثرة) وتم سحقه
كحشرة( وهو تعبيره أيضا) وتمريغه بالوحل،
كل أنواع الوحل، بكل أنواع الانتهاك،
انتهاك الروح والجسد والكرامة والأمل
والاسم والصورة والرغبة، ومن قبل الجميع:
من المؤسسات السياسية الحاكمة الى
المحكومة، من حزب السلطة الى سلطة الأحزاب
المضادة، من ( القوادين والقحاب وسواق
التاكسيات وابناء الخبازات واللمبجية
وأصحاب الأفران ص258) الى شيوخ الجوامع،
الى الفارين من السلطة والمختبئين في غرف
في البتاوين حيث كان ينقل رسائلهم مقابل
بعض النقود، لكنهم كانوا لا يحلمون
بالثورة بل بمؤخرته، كما فعلها أحدهم في
منزل خالة نوفل الصبي الذي يأخذ بنفسه
أيضا حصته من هذه الوليمة العارية لطفل
معروض في الشوارع لكل أنواع الهتك
والاذلال.
لكن ماذا يفعل هذا الطفل الهرم في عيادة
للطب النفساني في المنفى؟ كان يحاول ترميم
بعض ذاك الخراب الذي لا يرمم لأن الروح
ليست جدارا يطلى أو عطلا ميكانيكيا يصلح
ومع ذلك جاء الى العيادة ومنذ ذلك المشهد
الافتتاحي ونحن أمام لعبة قلب العالم على
قفاه أو رجم العالم، كل شيء، كل شيء، ولم
تسلم من ذلك سكرتيرة العيادة التي وزع
عليها منذ الصفحة الثانية من الرواية
حصتها من الشتائم في حواره الداخلي( جاءت
العاهرة بكرسي) و(استقبلتني بابتسامة
صفراء) ولم يتوقف هذا التوزيع العادل
للشتائم على الممرضة بل شمل كل ما هو
موجود في غرفة الانتظار( الى جانبي يجلس
الرجل العاهر) والى جانبه( كان يجلس مريض
آخر أكثر نظافة من العاهر الأول) بل حتى
حين ينظر عبر النافذة يرى( مجموعة من
القحاب يمارسن تمارين رفع الساق ـ محل
لليوغا) لم تعد هناك قياسات رياضية
للمسافات بل القياس الوحيد هو الهتك، وهذه
اللغة لا تلقى في سياق الاذلال بل
الانتقام، ليس من الحضور ولكن من الغياب ـ
الغياب المنتهِك الأكثر حضورا من غيره،
وليست الشتيمة هنا من باب التحقير لأحد
لأنها حوار ذاتي مع نفس تعاني من الكآبة
الحادة والشيزفرينيا والوسواس القهري، بل
لكونها السلاح الأخير الذي يملكه طفل
المنافي، طفل الرواية، آخر ما تركته له
المنافي المتعددة: منافي الأمكنة ومنافي
الجسد، ومنافي العقائد الكبرى، ومنافي
الاخلاق السائدة، ومنافي اللغة ـ حين لا
تقول اللغة شيئاً، تصبح منفى، وحين تكون
شركاً وفخاً، تصبح منفىً إضافياً.
هو تعلم منذ طفولة لا تريد أن تغادره على
هذه اللغة فلماذا حين يستعملها ويعيد
البضاعة الى أهلها تصبح مسبةً وحين تمارس
عليه تصبح فضيلةً وعرفاً وتباهياً؟ لماذا،
في التقليد السوقي الاجرامي، حين يقف
طابور على طفل يصبح هؤلاء ابطالاً، ويصبح
هو خطيئةً؟ كيف تنقلب المعايير في زمن
وحشي غادر؟ لماذا يتباهى هؤلاء، علناً،
بجريمتهم، في حين هو الضحية عليه أن يلوك
جرحه بصمت ذئب جريح يعوي في برية من الرمل
والفساد والحقارة؟
لا يريد طفل الرواية الإهانة لأحد، لأن
الشتيمة، بتعبير سارتر، هي سلاح الأعزل،
آخر ما تبقى له من أسلحة في وجه عالم
حوّله من طفل الى ذئب، ذئب يعوي في كل
مكان، ولم تعد الأمكنة تختلف لأن الذات
المنشطرة المنسحقة الموزعة لا تستطيع
تمييز حس المكان، المكان واحد كما الزمان
واحد :( صوت يشبه صوت عواء طويل وبنبرة
متحشرجة ومخنوقة ـ ص31) و( طريق طويل
وعواء يشبه عواء الذئاب ـ ص 215)و(كنت
أعوي مثل الكلب على العصافير في الحديقة ـ
ص 218) لكن هذا العواء المخنوق لا يسمعه
أحد أبدا: هو أخطر أنواع العواء تدميراً
لأنه مثل الحريق الداخلي ـ لا يشتعل، لا
ينطفيء. وحدها الرواية تستطيع أن تحول هذا
العواء السري، نواح الطفل، دموع الوسائد
السرية، النوم في محطات القطار، في
المقابر، في جحور الكلاب مع الحشرات، في
المقاهي، تحت الأمطار، في العواصف، في
الصيف المهلك، في غابة الايدي المطاردة
والناهشة، الى عواء مرئي. ليس غير الرواية
من يستطيع ذلك، وليس غير صلاح صلاح، في
هذه المرحلة، من هو قادر على أن يحاكم
الجميع وهو يحمل في يده جروح الطفل،
والطفل لا يكذب، الجرح لا يكذب، كما لا
تكذب الكآبة ولا الشيزوفرينا، لا يكذب
الصرع، لا يكذب سرد الضحية وهي تروي
لنفسها غارقة بالدم والاستباحة والهذيان
والوجع.
هذا الطفل الراوي يعرف جيدا ان أحداً لن
يخجل من هذا السرد لأن بعض الأرواح من
كثرة الصقيع والتجلد والموت في الحياة ومن
التعايش مع الدناءة لا تعرف الحياء ولا
تترك فنجان القهوة لكي تستوعب الحكايات
المتناثرة، ولكنه يعرف جيدا بالقدر نفسه
ان هذه النفوس المتجلدة تخاف من السرد
لأنها أدمنت على الجريمة السرية، الصامتة،
المتواطئة بتضامن عام ضمني، هو تضامن
العصابة الواحدة، وليس غير الرواية من
يكشف الدعارة الحقيقية المستترة خلف أستار
وحجب وأقنعة ومثل وحِكَم وقواعد وقوانين
والخ.
ليس للضحية ما تخسره بعد أن خسرت كل شيء،
والخاسر كل شيء إما أن يكون وحشاً أو
شجاعاً أو مجرماً أو انتحارياً. السرد
العاري هو جزء جوهري من الأخلاق ومن
الشجاعة حتى لو كان سرد المتوحش ويكفي
الراوي هنا أنه على وعي بتوحشه وحالته وفي
هذا انتصاره على جلاديه ومطارديه
ومنتهكيه. إن لسان حاله يقول بالصوت
العالي على الملأ: أنا هنا أروي سفالتكم
للعالم وأعرف أن هذا لن يخجلكم لأن الصفيق
لا يخجل ولكنكم تخافون من الفضيحة لأنكم
من عشاق الجريمة الصامتة وليس غير الحكاية
من يفضح وليس عندي ما أخسره سوى العذاب.
لن تسقط مني سوى بقايا مخالبكم. بابيون
عراقي أو فراشة أخرى لهنري شاريير على
حافة العالم يسخر من جلاديه ومغتصبي
طفولته. ولا يكتفي بذلك بل يلوح أن الراوي
المتعافي بالسرد من الوجع، الصاعد من رماد
جسده، المتصالح مع الكآبة المنقذة من
الاندماج حين يكون العيش مع القطيع مسخاً،
يضحك من حافات العالم وهو يرى جلاديه
العلنيين والسريين يتصاغرون بل يصمتون عن
الرواية وليس كما كانوا يتباهون عند
الجريمة: هذا الخرس ليس التجاهل بل
التحاشي وهو نوع من الهرب.
حين قدم له الطبيب عنوان مستشفى عليه
الذهاب اليه لكون حالته خارج قدرته على
المعالجة، غادر العيادة، وفي حديقة عامة
يلتقي، مصادفة، بجودي مع كلبتها شادو،
وحين تسأله جودي عن الاسم يقول( اسمي
كاغد) وماذا يعني اسمك؟ تسأل جودي صاحبة
الكلبة شادو، فيجيب من باب التندر:( اسمي
كاغد ـ ورقة ـ مجرد ورقة). من هنا يصبح
عقد العنوان بينه وبين القارئ واضحا:
أوراق الزمن الداعر هي سيرة أو ورقة حياة
هذا الطفل. لكن هل صحيح سيرة حياة هذا
الطفل؟ معنى السيرة يعني الاختيار ويعني
الحرية والمسؤولية. أين نعثر على هذه في
الرواية؟
( أكره الرجال) و( الأنثى هي الأصل 288)
وهذا أمر طبيعي لكل ضحية أن تجد مكانها
الحقيقي، بل تجد العزاء الحقيقي والحنان
والأمل والتضامن والمسرة، بين الضحايا،
وفي المقدمة النساء( كنت ذئبا جريحاً ـ
296) و( تستمر الرغبة في العواء عندي
ثلاثة أيام ـ 212) حكاية العواء مرة أخرى،
ولكن أين يجد هذا الطفل مكان تحقيق ومخطط
أحلامه؟( في المرحاض كنت أخطط دائماً
لمغامراتي ـ ص 96)، هكذا يصبح المرحاض
مكان الحلم الوحيد، أن يحلم وأن يبول في
مكان واحد، وتتناسل الأحلام البدائية:
الحلم في النوم، في الطعام، في الجنس، في
الاحترام، في الثياب، في المدرسة، في
الكلام، الحرية، الأمان، القانون،
الانتماء، التسكع المطمئن والعودة الى
البيت في الوقت الذي يريد، الحلم بصداقة
نظيفة منزهة، في حب حقيقي، في وطن حقيقي،
في شرف حقيقي، في دور عبادة حقيقية، في
ثورة حقيقة، وبما أن شيئاً من هذا لم
يتحقق لا له ولا لغيره، لم يبق له غير سرد
الحكايات من داخل الحمى والهذيان
والاضطراب والوحدة.
بهذه الطريقة يكون الطفل الهرم المنفي قد
ولد، هذه المرة، من رحمه هو من لا أب ولا
أم ولا بيئة حامية الا الكلمات: ولد
الأعزل، المختلف، من قلب الكآبة والسرد
واللغة ليروي لنا ما لا يروى، ومن أعماق
الزمن الداعر ولدت رواية حقيقية لجيل ـ"
جيل الحروب والحصارات والجنون " ـ منذور
للخسارة واليتم والمنافي والمطاردة، لكن
الرواية العراقية بعد" أوراق الزمن
الداعر" لن تعود كما كانت عليه قبلها.
2
رغم ان ميثاق القراءة مع القارئ الذي عقده
المؤلف يقول على الغلاف ان هذه(رواية) لكن
البنية الداخلية للنص تشير الى الكثير من
مقومات العمل السيروي الذاتي الروائي
الحداثي القائم على تقنيات السرد الروائي،
وفي كل الأحوال سواء في السيرة الذاتية
الروائية أو في الرواية لا تشترط المطابقة
الحرفية لا مع الواقع ولا مع المؤلف، وفوق
ذلك فإن هذه المطابقة في العمل الأدبي ـ
سيرة أم رواية ـ غير ممكنة لأن التخيل
يلعب دورا رئيساً في عملية البناء
الحكائي، وتتقدم المخيلة على الواقع
الحرفي، بل تعيد خلقه أو تدميره، رغم ذكر
بعض الشخصيات الحقيقية بالاسماء الحقيقية
وصلاتها بالراوي، وليست هناك قراءة نهائية
للرواية لأنها ليست نصا كنسيّاً أو حزبياً
أو حربياً: الرواية تتحمل قراءات مختلفة
حسب القرّاء ونوعية القيم السائدة النقدية
والاجتماعية والوعي النقدي والخ.
في هذه البنية المركبة بين السيرة وبين
الرواية ـ يمكن لكل قارئ التعامل مع هذا
النص كما يشاء لكن هذا التعامل ليس مطلقا
في كل الأحوال ـ تحاول الذات الساردة تخيل
ماضيها الفردي غير المعزول عن التاريخ
السياسي والاجتماعي العام، وهذا التخيل
يمنع حدوث أي مطابقة معه، ولكن محاولة فهم
واعادة صياغة، وهذه الاعادة في الوقت الذي
تتكئ
فيه على الماضي لكنها لا تتخذه
مرتكزا لبناء الحاضر، خاصة اذا عرفنا ان
هذه الذات الراوية لا تمتلك الزمنين: لا
الماضي المملوء باستلابات القهر كلها ولا
الحاضر المملوء بالفراغ والذاكرة المزدحمة
بالزمن الأول الذي يحجب علاقة محتملة
وممكنة مع الحاضر الذي يلوح كصدى لذلك
الماضي: الراوي يعيش في زمن متخيل هو زمن
الفصام لكنه زمن خلق وهنا يوجد الأمل ـ
الأمل في أن تكون الحكاية بديلاً عن أي
علاج، وحتى لو تمت استعادة الماضي،
سردياً، فهذه الاستعادة لن تكون حرفية في
كل الأحوال.
في المشهد الافتتاحي في العيادة الطبية
نكون في مواجهة الشخص المركزي الراوي في
منفاه الجديد( كان الوطن هو المنفى الأول)
يحاول، بعد فشل كل محاولة في التواصل مع
الحاضر ومع الذات الجريحة، لأن مرض العصاب
النفسي وملحقاته قد قطع الطريق على مثل
هذا التواصل، يحاول عن طريق الطب اعادة
الصلة مع الذات ومع الحياة لكن هذه الصلة
لا تستعاد عن هذا الطريق لأن البنية
العضوية للشخصية مصابة بالكامل، كما ان
الراوي، عبر الاجترار واستعادة صور القهر،
لا يفعل سوى ترسيخ هذه القطيعة ودوامها
وتجذيرها من دون أن يعلم، وهذه من طبيعة
الوسواس القهري والأفكار الثابتة التي هي
صدى لذات تعاني من جرح نرجسي عميق تحاول
عبر تكرار أفعال القهر تحويل الاستلاب الى
موضوع وموضوع لذة وهنا الحلقة المفرغة، اي
ان الذات من دون أي شعور بالانتماء ـ
طبيعة الذات المقتلعة والمقهورة ـ تحاول
ابتلاع ذاتها عبر الاجترار والتكرار وهنا
يترسخ الماضي ويتحول من حالة متخيلة الى
حالة عضوية ـ وكما يشير التعريف السيروي
في نهاية الرواية ان الكاتب نفسه تعرض
لأزمات نفسية قاتلة خلال دراسته الجامعية
وبسبب ضغوط سياسية ترك الدراسة.
ان الراوي وهو يروي حكايات قاع المدينة
وطفولة معذبة وشقية ومستلبة ومحطمة، إنما
يروي في الوقت نفسه تاريخ العذاب والشقاء
والاستلاب والتحطيم العام، الاجتماعي
والسياسي، وليس من الغريب سواء قصد المؤلف
ذلك أم لا أن يكون التوازي قائما بين
الاستلابين وبين الحطامين: كان السارد،
الطفل ثم الرجل، يتحطم في الوقت نفسه مع
البلد نفسه، بل كان حطام الذات صدى للحطام
العام في مكان تنعدم فيه الخيارات الفردية
حتى في حدها الأدنى، ومن هنا ليست هذه
رواية أو سيرة فرد ولكنها رواية بلد وسيرة
تاريخ وأجيال عبر المتخيل، وفي هذا النص
الفالت من العرف ومن اللغة ومن القانون ـ
كالواقع المنتج له ـ وهذه من خاصيات أدب
الاستلاب الحداثي أو رواية الحداثة، ليس
هناك اي يقين بشيء حدث كما هو وليس هناك
أي يقين بأي شيء سيحدث لأن منطق التسلسل
المتتابع غير موجود ومنطق السببية في
ترابط الاحداث غير موجود كما في النصوص
التقليدية المعروفة، وهذه الميزة، وهي
ميزة الرواية الحداثية، تعطي هذا النص
نكهة الغرابة والصدمة والدهشة والفرادة
والصدفة والاحتمالية على التوقع والمنتظر
والممكن والمحتمل: لا محتمل غير المفاجأة،
مفاجأة اللغة ومفاجأة الفعل ودهشة السرد.
في روايات القاع السفلي للمدينة نعثر على
مستويين للمدينة: القاع والسطح. ما يدور
في الأول سري وعميق ولغزي، لكن ما يحدث
فوق السطح واضح وعلني ومكشوف، لا تحكم
الأول قواعد أو قوانين، ولكن السطح محكوم
بها، أما في هذا النص الروائي السيروي
فنحن أمام علاقة من نوع مختلف: قاع
المدينة بمشرديه ونماذجه المهشمة ومنفييه
في بيوتهم أو في الشوارع أو في المقاهي
والحانات تتحكم بهم وفيهم علاقات صريحة
رغم فجاجتها ولكنها واضحة ولا تفتقر
للعواطف الانسانية الأصيلة بل تزخر بها
رغم الأقنعة والأفعال، ولكن صدى الاستلاب
يحيلها الى كائنات متوحشة بحكم قوة القهر
المتنوع، والحرمان المتعدد، لكن سطح
المدينة الذي يفترض الوضوح والخضوع
للقانون العام وأعرافه يلوح هنا هو القاع
الحقيقي الغامض والمضطرب.
المدينة في هذه الرواية السيروية مقلوبة:
السطح هو القاع وبالعكس وهذه طبيعة المدن
القمعية، وهي ظاهرة لم نعثر عليها في
روايات عراقية أخرى تخضع أشد الخضوع في
غالبيتها للنمطية والى منطق ثنائي: إما
تمجيد السطح ـ السلطة والمجتمع والتاريخ
والخ ـ أو تمجيد القاع، أو إدانة
الاثنين، لكن رواية أوراق الزمن الداعر
تقلب المعادلة ، لا تفسر، لا تشرح، بل
تتخيل، والتخيل نوع من البراءة، خاصة خيال
طفل خارج من غابة المكان الأول الى وضوح
المكان الثاني وهنا ورطة جديدة غير
منتظرة: وضوح المكان الجديد في المنفى
يحتاج الى روابط والى ذاكرة مصفاة وذات
متصالحة لكي تقيم علاقة ما مع المكان
الجديد، ولكن ماذا يحدث عندما لا تكون هذه
الذات قادرة لا على التجذر مع الحاضر
الجديد ولا التصالح مع الماضي المستمر؟
ماذا يحدث حين تكون الذات منشطرة في أكثر
من اتجاه وفي اكثر من مكان؟ وكيف يمكن
لذئب متحول من بشر أن يقيم مثل هذه
الروابط؟
ان هذه الذات الساردة أبعد ما تكون عن
الاحتفاء بنفسها كما نجد في روايات تمجيد
الأنا، بل العكس، تقع في خصومة مستمرة
معها لأنها ليست من صنعها، اولا، ولأنها،
ثانيا، صارت عبأً ثقيلاً تعرقل فرصة
التواصل مع الحاضر الجديد ومع الانسان
الجديد بعد خروجه من الطفولة، أوفي الأقل
خروجه العضوي وليس النفسي، ولم يعد الصراع
يقوم بين هذه الأنا والعالم، أو بينها
وبين الواقع القديم المتلاشي، بل بينها
وبين الذوات التوابع، أو الذوات المفروضة
من الماضي القديم والمكان القديم في
صراعها مع بعضها لأنها لم تتكون في مناخ
طبيعي ولأنها صورة مختزلة لذوات هائلة
تراكمت، قسراً، وشكلت مداراً واخزاً حول
الذات الأصلية وطمرت هذه الذات، لذلك كان
العصاب والشيزفرينا والكآبة كصمام أمان أو
كدفاع وقائي داخلي أو الباب الذي أُوصد في
وجه المزيد من الضغوط كما يحدث في حالة
الاغماء حين يقوم الدماغ بغلق التيار وكما
يحدث في أجهزة الكهرباء من أجل وقف الضغط
الهائل والمفرط أو يكون الانفجار هو
البديل.
هذه الذات ليست متباهية بنفسها ولكنها
متعالية عليها وهنا أمر غريب:كيف تنظر هذه
الذات لنفسها من موقعين مختلفين
ومتناقضين؟ هل يكفي القول إن هذه طبيعة
الشخصية الفصامية؟ هل يمكن الركون الى هذا
التفسير الأحادي العقلاني الاحتمالي
الممكن؟ ام ان هذه طبيعة الشخصية الروائية
الحداثية في كونها ليست سطحا بل طبقات
مركبة ومتناقضة؟ ليست هناك فرصة واضحة
لليقين بذلك ولا بغيره لأن تاريخ هذه
الشخصية غير قابل للتفسير لأن الواقع
المنتج لها نفسه غير قابل للتفسير: ليس
بمعنى اللغز ولكن بمعنى الاستباحة، وحين
يكون الماضي، ماضي الشخصية الفردي والعام،
تاريخها الخاص وتاريخ السلطة والمجتمع
والسياسة على هذا المستوى من الفوضى
والعشوائية والكلبية والافتراسية، لا يمكن
فهم سلوك الذات وتشريح أعماقها بناء على
علم النفس وحده ولا أي علم بمفرده، لأننا
في هذه الحالة لسنا أمام حالة مرضية بل
أمام حالة قهر واستلاب ورعب يفوق طاقة
البشر لا يمكن تفكيكه من خلال مفاهيم الطب
النفسي بل من خلال تفاصيل التاريخ العام،
وبالتأكيد لا يمكن علاج ذات مهشمة من خلال
علاج التاريخ العام كما يمكن أن يقال في
النقد التقليدي المدرسي التقني التلقيني
لأن هذه المهمة مستحيلة وقد فات الأوان
على الإثنين: على الذات وعلى الواقع ـ
كلاهما مات أو ماتت فيه أشياء، الذات تحطم
فيها كل يقين، والواقع تلاشى أو بتعبير
أدق تفسخ وسيظهر في زمن آخر بصورة أبشع
كما يحدث لحشرة القرادة حين تموت وتفرغ
جسدها من السوائل ثم تحيا بعد عشرات
السنين، لأن بنية الحياة الأصلية ظلت حية
كما أن بنية الواقع الأصلي القديم ظلت حية
ولم تشهد قطيعة معرفية.
الذات الراوية في مكان آخر والواقع المنتج
مات ولم يعد موجودا ـ أو بزغ على نحو أكثر
قسوة في غياب الراوي ـ مات في الواقع وولد
بصورة مختلفة( التعبير الأدق: ولد مرة
ثانية، مشوهاً) ولكنه حي داخل الشخصية بل
أكثر حياة من حاضر المنفى، وهنا واحدة من
تعدد مستويات هذه الشخصية التي تتقاطع مع
كثير من النماذج الروائية العراقية
النمطية التي تميل الى التماسك والانسجام
والوضوح وهي عناصر أبعد ما تكون عن رواية
الحداثة التي يجسدها نص صلاح صلاح الروائي
السيروي بشكل مذهل وعفوي وتلقائي ومن خلال
سرد تخيلي بسيط جدا وعميق جدا ومكثف جدا
الا في حالات الاستطراد اللغوي والخضوع
لسحر المغامرة اللغوية الشعرية وهو أمر
نقع فيه جميعا تحت اغواء اللغة الشعرية أو
تحت تصور اللغة الشعرية أو ما يعرف بشعرية
الرواية، وهذا الاغواء كرسته القراءات
النقدية العربية السطحية في كون شعرية
الرواية هي شعرية اللغة وليست شعرية الفعل
الذي قد يكون في وصف محطة قطار أو مكتب أو
شارع قديم أو في حوار عابر أو في حركات
تتضمن المفارقة كما حوّل، مثلا كافكا
المكتب ابعد الأماكن عن الشعر الى صور
شعرية زاخرة بالجمال العميق والرؤية
الأعمق من سطح الأشياء وهذه هي شعرية
الرواية، بل هذا هو الشعر: النفاذ والعمق
والرؤية التأملية ومغامرة الغواص وليست
الزخرفة اللغوية.
عكس كل ما نعرفه عن روايات السيرة أو
روايات الاعتراف لا تكون الذات الساردة في
هذا النص منتمية الى ذاتها ومعتزة بها
لأنها تحملها كما تحمل عربة أشلاءً محطمة،
بل لا تشعر هذه الذات بالانتماء الى أي
شيء أو مفهوم أو عالم ولا يربطها أي رابط
بكل كيان أو مؤسسة أو عائلة وهي تفتقر لكل
أنواع الحماية: الأب لا يظهر في الرواية
الا كقبر عند زيارات الجدة الى المقبرة مع
الطفل، والراوي لا يتحدث عنه كما لو انه
ميت في أعماقه ولا نشعر بوجود تمرد فرويدي
على الأب، والمفارقة أن الأم هي الأخرى
تغيب( أو تغيّب؟) من الرواية ولم أجد
ذكراً لها أبداً كما لو ان الراوي خرج من
العدم الى العدم، كما لو أنه لا يريد
الكلام عن عائلة لكي لا يعلن ولادته
المؤجلة التي ستكون داخل هذا النص المبهر
وداخل نسيج اللغة وعبر المتخيل ومن رحمه
هو ومن قلب الهذيان والصدوع ـ والدة صلاح
صلاح، كما في السيرة المختصرة في نهاية
الرواية، أعدمت بتهمة الانتماء الى الحزب
الشيوعي عام 1982 الذي يعلن الراوي
كراهيته المطلقة له من بين كل الأحزاب
الشيوعية التي يقول إنه يحبها جميعا، بل
في مرحلة قادمة سيكون في تنظيم مسلح
فلسطيني يساري بصبغة شيوعية تماما كصلاح
صلاح نفسه: عمل الروائي في بيروت في تنظيم
فلسطيني مسلح.
لا نعرف الى أي مدى تكون العلاقة بين غياب
الأم في النص وموتها العضوي في حياة
المؤلف، لكن الشيء المؤكد أن غياب الأب
والأم شكلا، عن وعي أو لاوعي، غياب الشعور
بالحماية لطفل قذف الى عالم شرس بلا أي
غطاء حماية أسرية تشكِّل في العالم
المشرقي وفي ظل غياب الضمانات العامة قوة
جوهرية ساندة وركيزة طمأنينة مهمة،
وباستثناء الجدة شبه الميتة والعم صاحب
المقهى الفظ والجد لا يعثر الراوي على
جذور سلالية، والمصيبة ولا على هوية
مواطنية ومن هنا، رغم اختلاق الحجج، سيبحث
عن انتماءات سياسية توفر له الحماية أو في
الأقل الحد الأدنى من شروط العيش ـ العيش
ولو بصورة مقرفة.
الفشل المستمر في الانتماء لعنة تطارده في
كل مكان: فشل في دور عضو العائلة، وفشل في
دور المشرد، وفي دور اللص، وفي كل أدوار
الحب مع عدة نساء، وفشل في علاقات جسدية
مع أخريات بل فشل في العادة السرية وفي
الانتماء الى مقهى العم ومن ثم فشل في
الانتماء للحزب الحاكم وفشل في دور الثوري
عبر التنظيم الفلسطيني المسلح كما فشل في
الانتحار وفي حرب الخليج الأولى ـ
والمفارقة اننا كنا في مكان واحد في جبهة
الحرب الجنوبية في الخطوط الأمامية من دون
أن نعرف بعضنا ـ وفشل في أن يكون مجرما
حين حاول قتل زوج راحيل المرأة الوحيدة
التي شكلت له علامة مضيئة عبر كل الرواية
وصارت واحدة من الهياكل الأساسية المرجعية
في النص وفي خيال السارد: يحمل اسم راحيل
دلالات رمزية تشرح أفق الراوي الداخلي
وغياب التصنيفات لأن الحب يلغي الحواجز.
الغريب ان راحيل شيوعية أيضا رغم كراهية
السارد للحزب لكنه يفرق بالباقي من الوعي
بين الجسد وبين النص الايديولوجيا، بين
راحيل المنتمية اليه وبين راحيل المنتمية
للحزب، يحب الأولى ويكره الثانية، وتعكس
هذه العلاقة وهذه النظرة رغم التلويث
والتهشيم والخراب المستمر، رغبة الراوي في
عالم نظيف ونقي، وهذا يعني انه لم يخرب
تماما في أسوأ الأحوال: قائمة نساء الراوي
طويلة ـ: عاطفة، ياسمين، هادية، عزيزة،
لكن راحيل كانت حلماً وأملاً يتجاوز
الجسد، والدين، والسياسة، الى ما هو أبعد،
الى شيء مجهول لا يعرفه هو، أو خارج حدود
الادراك، وهذا هو الحب الصافي المجرد من
كل غرض وحاجة وعقلية الربح والخسارة.
بعد خروجه من عيادة الطبيب والتعرف على
جودي في حديقة تورنتو يخرجان معاً في
نزهات ثم يستقلان الحافلة الى منزلها وقبل
تقمص أو حلول الذئب فيه، يحاول من خلال
اللغة الانسانية المهذبة أن يقيم تواصلاً
عاديا وطبيعيا مع جودي التي تعجب بتهذيبه
أول مرة (قبل أن يحاول ابتلاعها في المنزل
في مناخ طقسي أسطوري عاصف بدائي وغابي)
وهذا يعني ان اللغة فيه، أو في الأقل لغة
الواقع الجديد قادرة الى حد ما على هذا
النوع من التواصلية لكنها غير مكتملة ليس
بحكم الواقع الجديد ولكن بحكم سيطرة
الواقع القديم الميت في التاريخ، الحي في
الذاكرة، الماضي المستمر. وكما هو معروف
ان الذاكرة استعادة والخيال خلق: العجز
هنا هو عجز الذاكرة عن الصفح أو النسيان
أو المغفرة أو التصالح في الأقل مع الذات
ولكن كيف يمكن هذا التصالح مع ذات هي
مجمّع ذوات مفروضة قمعية مستلبة؟ كيف يمكن
التصالح مع ذات هي نفسها أداة قمع؟
التصوير
البطيء في (الهجوم) على جودي كما
لو تم بكاميرا حساسة ومتأنية في منزلها
بعد كل التهذيب المؤقت يوضح أفضل من أي
مشهد آخر آلية الانتقال من الرجل الى
الذئب المخلوق بقوة القمع وعلى مراحل،
يجسد بتعبير أدق صورة التهام العالم عبر
جودي : ( تمددت جودي إزائي. حدقت مثل
المخبول في غابتها والأوراق والحشائش
والطيور والأسود والذئاب والجرذان
والطواوييس والأيائل. فمي يشهق وعيناي
حمراوان واللعاب يسيل. كنت أريد أن
أتشممه، أقتله، أحطمه، أنهبه وصوت العواء
المخيف ينطلق من فمي. تتحرك هي ببطء وأشعر
أني مصاب بالذئبية والسعار والهيجان.
أنحني واللعاب يسيح وأنهمر عليه مثل مشوه
ومخبول ومثل ذئب أصرخ بعنف وألم وارفع
وجهي الى السماء صارخا بكل ما أوتيت من
قوة النجوم والسحر والأمراض والجراثيم
والإفرازات والدم والخراء واللعاب. كنت
أسمع صوت الأنفاس وهو يرتفع ويحرك بطنها
الصغير ارتفاعاً وهبوطاً وظمأً وإشراقاً
ولهيباً ونحيباً. فجأة، أطلق لصراخي
العنان وانهار على الأرض وأخمش بأصابعي
البلاط وترتعب جودي وتنحشر في احدى
الزوايا ـ أقترب منها زحفاً على ركبتي،
وسعار الالتهام يدمر أصابعي وأسناني فيما
أنا أعوي وأتوسل. راحيل بطرس ذو الكفل
عزريا الخضر الحسين حزيقال عبد القادر
الكيلاني الحروب المجاعات الاعدامات غاز
السارين جبل ماوت ـ تهرب جودي وألاحقها
وترميني بالأحذية والمنافض والأوراق
والسجاد والصحون. لكني استمر بالعواء
واللعاب يبلل وجهي والدم يقطر من عيني.
عندما حشرتها في زاوية المطبخ، فُتحت باب
الشقة فجأة وهجمت علي الشرطة ورجال الأمن
وفرقة مطاردة الكلاب التائهة...).
يُحمل بنقالة الى المستشفى وفي الطريق كان
يشاهد آخر( إخراج مشوش لزمني بخفوت) وتكون
الرواية هي سرد تحت هذه الحالة من الهذيان
والانفصام والعودة الى الماضي. لكن
المفارقة وما أكثر المفارقات ان الراوي
وهو ينقل الى المستشفى مدمى بجروح دامية
لا يتذكر هذه الجروح النازفة من جسده
الخارجي، الآن، بل يتذكر الجروح النفسية
العميقة من ماضيه المستمر، لأن هذا الجسد
المدمى المنقول لا علاقة له به، كما لا
علاقة له بالحاضر: هم أخذوا الجسد، وهو
غاص في طفولة شقية. كانوا وهم ينقلونه
يملكون سيرة عن حدث اليوم في منزل جودي،
لكنه وهو على النقالة كان يروي لنفسه سيرة
أخرى بعيدة عنهم تماما: صحيح انهم يمشون
حاملين جسده في اتجاه واحد لكن كل طرف على
سكة أخرى ولن يصلوا الى المحطة نفسها ـ
محطة الراوي نائية في الأعماق وهم ينقلون
السراب والوهم: هو الفارق بين زمنين
وجسدين ووعيين ومكانين وتاريخين وجرحين.
اذن، يكون الفصام منقذا، وتكون الكآبة
محررة لكن هذا ليس حلاً ـ العبارة الأخيرة
لا تنتمي الى عالم الراوي الذي لا يبحث عن
حلول عقلانية بل عن حب وصفاء داخلي، لا عن
تسوية بل عن بلسم، لا عن ذاكرة جديدة
مفرغة بل عن ذاكرة نقية وهو بحث يقطعه
دائما الخيال، وكما يعرف علماء النفس كلما
كان الصراع بين الخيال والذاكرة كانت
الغلبة للخيال. لم يبق غير السرد وغير
رواية العذاب وغير الحكي وبهذه الطريقة
الفردية تم تحويل الذاكرة الى خيال سردي
جامح طليق لكي تحكي كما تحب أو لا تحب في
نوع من البوح أو الحرية أو الانطلاق لم
يتوفر في أرض الواقع، وحين تصبح الذاكرة
خيالا، يغيب التعارض أو التناقض بين
الذاكرة، الماضي، وبين الخيال الحاضر
والمتجول في كل الأزمنة ويغيب الصراع، لكن
الرواية تنتهي ـ تنتهي؟ ـ والراوي يلعن
الجميع، لأن النهاية المغلقة من طبيعة
سرديات التاريخ وليس من صفات سرديات
الرواية الحديثة المفتوحة على الليل
والهاوية والاحتمال والمدهش، ولا تخضع هذه
الرواية لتفسيرات أخلاقوية لأن عالم
الطفل، أولا، لا تحكمه الأخلاق بل غرائز
الحياة، وثانيا، لأن المستباح لا يحتاج
الى محاكمة أخرى ولا الى البراءة بل الى
الأمل والتضامن والدعم والفهم والأهم من
كل ذلك الى الحب نقيض القمع.
يقول الدكتور صبري حافظ في نهاية رواية أو
السيرة الذاتية الروائية( الشطار) للروائي
محمد شكري، وقد نُشرت هذه الرواية/ السيرة
بعنوانين مختلفين: الشطار، وزمن الأخطاء،
وقد اشتريت النصين من الدار البيضاء بدافع
الالتباس، يقول عن ( الخبز الحافي) : ـ (
ليس ثمة نص في أدبنا الحديث أشد جرأة في
انتهاكه للمحرمات اللغوية والاجتماعية
والجنسية من سيرة محمد شكري) لكن لو قرأ
الدكتور رواية ( أوراق الزمن الداعر)
لوجد، مصدوماً، ان جرأة الخبز الحافي
مقارنة مع هذا النص هي جرأة متقشفة مقتصدة
مترددة: صحيح ان الشخصيتين في النصين
تعانيان من اليتم ومن الاستلاب ومن العوز
المادي والروحي، لكن محمد شكري كان شريكاً
في قاع المدينة، كان قادراً على أن يلعب
دور البطل في الفريق وفي قيادة الجماعة
ولم يكن هدفا سهلاً أو وليمة مفتوحة، لأن
فضاء طنجة المفتوح على البحر وعلى الحرية
وعلى المغامرة ليس هو نفسه فضاء بغداد
المغلق على كل شيء: بغداد السياسة والشارع
والمدينة والقاع والمجتمع والسلطة لا
تتحمل عصابتين أو دورين أو عدة أدوار، لا
تقبل التنوع، في مكان واحد، ولا
أيديولوجيتين، وترفض لعب الأدوار
المتناقضة وتعشق الدور الواحد حتى اليوم:
إما أن تكون جلاداً أو ضحيةً.
حين لم يكن في وسع الراوي أن يكون جلاداً
وجد نفسه في دور الضحية القسري مثل عدة
أجيال، لكن الأخطر في أن يتحول، في منفاه
الجديد، الى جلاد ذات كان يتصور ان المنفى
سيحرره منها، لكنه، وهنا واحدة من ألاعيب
المنفى، وضعها كلها بعريها ورعبها
وجروحها، عارية، أمامه، لكي يراها أوضح
وأدق، لكي يكتشف ما لم يكتشفه في
الاشتباك: هنا لابد من توضيح مفردات
كالهتك والمحرم والجنس والفضح والخروج على
السائد والخ، وهي من شروط رواية الحداثة
لأن هذه تستدعي في الوعي الجماعي صورا
سلبية عن تمرد أخلاقي. ليس الهتك اللغوي
أو الجنسي او الاجتماعي يعني التمرد على
القيم الاخلاقية في ينابيعها الصافية
والنقية ولكن على الضد من ذلك التمرد على
الأخلاقوية لأن أسوأ تاريخ للبشر ليس
تاريخ الحروب بل هو التفسير المبتذل
للأخلاق، وهذه الرواية بصورة خاصة هي
رواية الحلم بعالم نظيف ونقي يولد فيه
الطفل طفلا وينمو دون أن تختصر حياته في
الطريق الى وحش أو ذئب: عالم يكون فيه من
حق الروائي والانسان أن يعيش كما يحلو له
وأن يروي كما يحلو له، فليس من المعقول
ولا من اللامعقول أن نحرم من حق الحياة
ومن حق رواية العذاب؟
ليس أفضل من عبارات هنري شاريير في
الصفحات الأخيرة من رواية( الفراشة) قد
تعبر بالحد الممكن عن هذا النوع من الهلاك
ـ ( ماضيّ لا يمّحي بجرة اسفنجة، فواجب
علي أن ارجع الى ما كنت عليه من الاعتبار
لنفسي أولا ثم في أعين الآخرين، ثانياً).
لكن راوي أوراق الزمن الداعر لا يريد
الرجوع الى(ما كان عليه) لأن الموت أهون
من هذا الرجوع، بل هو قرر، في الكتابة،
وخلالها، ومنها، أن يصبح ما يريد أن يكونه
حتى لو كان الثمن هذه المرة الموت أو
العزلة.