أكثر عملاء العالم صفاقةً حمزة الحسن

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات مختارة

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

أكثر عملاء العالم صفاقةً

حمزة الحسن

 

الحوار الذي دار بين الروائي البير كامو وبين الروائي فرانسوا مورياك بعد تحرير باريس حول الموقف من العملاء والمتعاونين مع الاحتلال بين دعوة كامو للعقاب من اجل انتصار القيم الاخلاقية والثأر للضحايا وبين العفو عن الخطيئة وهي فكرة مستحوذة على تفكير مورياك في حياته الخاصة وفي اعماله الروائية من "عقدة الافاعي" الى "صحراء الحب" و"قبلة الأجرب" يستحق الاهتمام والتأمل لأنه ليس حوارا عاديا بين روائيين كبيرين(كلاهما حامل جائزة نوبل) ولكنه يعكس الالتزام الوطني والاخلاقي والسياسي والادبي لمثقفين على درجة كبيرة من الأهمية في مرحلة منعطف وهي تحرير باريس.

 

كان كامو ابن الأرملة والخادمة الفقيرة والقادم من العزلة الى المقاومة والنافر من عالم السياسيين يترأس جريدة " كامبا ـ المعركة" في فترة المقاومة الفرنسية وهي صحيفة سرية ولم يكن معروفا ان كامو يقف خلفها وفي قمة تحريرها الا عشية تحرير باريس حين ظهر المقال الافتتاحي الأول بالاسم الصريح لرئيس التحرير الصامت  صاحب المعطف الاسود والنظرة الطفولية كامو بعنوان احتفالي" باريس تطلق الليلة آخر رصاصاتها" اعلانا بنهاية زمن المقاومة والعودة الى بناء الدولة الوطنية، واما الروائي الكبير مورياك فلم يكن بعيدا عن المقاومة الفرنسية هو الكاثولكي الصارم والملتزم بقيمه الدينية طوال حياته، فقد كان "رئيس شرف اللجنة الوطنية للكتاب" والزعيم الفكري للدفاع عن المقاومة وكتبه تطبع سراً في دور نشر تحت الأرض وخاصة دار "مينوي".

 

كان كامو يقود فكرة العقاب لكن من دون تشفي واذلال لكل الذين تعاونوا مع الاحتلال النازي في حين كان مورياك الكاثولوكي الصارم المؤمن بفكرة الصفح والغفران يطالب بالعفو والرأفة، ولم يكن كامو بعيدا عن فكرة العفو والرأفة لأنه كان يرى ان العقاب لا يتقاطع مع الصفح والغفران بل هو تكريم له لأن معنى الغفران لا يكون موجودا بدون عقاب وتتحول الحياة الى عبث حين يتم الاحتكام الى فكرة لاهوتية من دون قراءة شروط الواقع.

 

مورياك نفسه ليس بعيدا ايضا عن فكرة العقاب لكنه يخاف من الافراط في الانتقام ويركز دفاعه على فكرة بناء الدولة الوطنية بعد التحرير بما في ذلك بناء الانسان واذا عرفنا ان مورياك الصوفي الاخلاقي يؤمن بالخطيئة الاصلية وان العقاب قائم والانسان لا يحتاج الى عقاب اضافي بالتصفية الجسدية ولكنه يحتاج الى المحبة والرأفة، نفهم عمق الخلاف بين الكاتبين الذين لم يشاركا في صنع الرواية الفرنسية الجديدة فحسب بل شاركا من داخل المقاومة وسراديبها السرية ومن قلب الخطر والمطاردة في صياغة تاريخ فرنسا.

 

ولم يكن الحوار بينهما( المنشور هنا مقال عنه مقتضب) هو الوحيد في تلك الحقبة لا في فرنسا ولا في غيرها، ولكنه الحوار الأشهر نظرا لشهرة الكاتبين ومواقفهما المعروفة في الادب والحياة والفلسفة والرواية: كامو بعد التحرير عاد الى عزلته الاسطورية بعد أن أجبره الاحتلال على الخروج منها وعاش في ضواحي باريس في مكان منعزل مع عائلته وابنته كاترين ليقتل في حادث سيارة وفي جيبه تذكرة قطار ولم يعثر على كلبه داخل السيارة الذي نجا من الموت في سخرية مضاعفة. هذه النهاية العبثية ليست بعيدة عن عالمه الروائي وفكرة المصادفات القاتلة(ماذا لو ركب القطار؟) لكن عزلة كامو كانت بداية مرحلة جديدة في الرواية الفرنسية توجت بجائزة نوبل وعدة كتب تثير جدلا حتى اليوم" الانسان المتمرد، اسطورة سيزيف، أعراس، السقطة، الطاعون، الغريب الخ" ورواية "الموت السعيد" التي نشرت بعد الحادث المشؤوم ولم يكتمل فصلها الاخير وهي صياغة أولية مؤجلة لرواية" الغريب" واقدم منها ويبدو انه من تقاليد شخصية صارمة كان يتردد في نشرها.

 

على المستوى العراقي يهمنا هذا الحوار لأنه يطرح علينا قضية مؤجلة وقادمة بلا أدنى شك: كيف سيكون التعامل مع عملاء وكتاب الاحتلال وهؤلاء ليسوا كعملاء فرنسا وغيرها غاطسين في السرية وفي الغموض وفي الخجل وفي التواري بل هم صنف من أشرس وأصفق وأقبح وأسفل العملاء في العالم عبر التاريخ ولا يخفون عمالتهم بل يدافعون عنها بحماس استثنائي وبحجج واهية ولا يتنكرون للاحتلال بل يسمونه تحريرا ويرفعون رسائل الشكر الى رئيس الغزو لذبح شعبهم ويدافعون عن جرائم اليوم ومجازره بذريعة مرحلة العبور والتحول وسوى ذلك من قاموس المأجورين، ولم تشهد حركة تحرر وطني في العالم صنفا من هذا الطراز من العملاء( في حقل الكتابة والسياسة) يقومون هم، الآن، بمحاكمات مرتجلة وتصفيات جسدية وأخلاقية للمقاومة وكتابها في قلب الاشتباك مما سيجعل التعامل معهم خارج هذا الحوار الاخلاقي والثقافي والقانوني والديني بين كامو ومورياك خاصا للغاية واستثنائيا للغاية نظرا للدور المخرب والعلني والمتبجح والصفيق الذين يقومون به كل يوم بلا حياء كما لو ان لعن المقاومة واستباحة كتابها وقيمهم صار جزءا من منظومة ما نسميه بلا ملل: تطبيع النذالة والخيانة وتحويل العمالة الى وجهة نظر وقضية رأي عام.

 

وصلت القباحة النادرة بل الاستهتار العلني والصفيق أن يكتب أحد أشهر المهتوكين والنصابين والمعطوبين أخلاقيا قبل أيام قلائل مقالا تحت عنوان" المقاومة وكتابها" وصف فيه المقاومة بالحرف الواحد" غالبيتهم من المثليين الذين يعترفون على شاشات التلفزة بشذوذهم الجنسي وكذلك غالبية كتاب المقاومة الخ" ولم تكن هناك شاشة عرضت مثل هذه الاعترافات الملفقة ولكن هناك شاشة واحدة عرضتها هي شاشة العطب الداخلي المتخصصة في هذه العروض لهذا الشاذ بكل أنواع الشذوذ.

 

نحن لسنا استثناء من شعوب العالم في قوانين العقاب والتعامل مع المأجور والخائن وحتى أكثر الدول ليبرالية موغلة في التطرف كالنرويج مثلا قامت بتصفية جسدية للمتعاونين مع الاحتلال النازي بعد محاكم علنية. ومعروفة المحاكمة الشهيرة للروائي كنوت همسون حامل نوبل الذي أيد غزو بلاده ولم ينقذه من الموت سوى كونه طاعنا في السن وربما خرفاً، وتتوارى حتى اليوم النساء المتزوجات من جنود نازيين ويرفضن الاعتراف بهويتهن وهوية الابناء الذين يبحثون عبر نداءات توسل في وسائل الاعلام عن امهاتهم حتى ساعة كتابة هذا المقال ويرجونهن على الأقل الاتصال بهم من هاتف خارجي لسماع الصوت وهن يرفضن في الغالب خشية من الاذلال في اكثر بلدان العالم انفتاحا وحريات فردية وحداثة جانحة هشمت كثيرا من القيم التقليدية ومع ذلك ظل الموقف من العملاء ثابتا وطنيا عبر الزمن.

 

في عراق بعد الاحتلال، سيكون التاريخ القريب أمام أكثر عملاء العالم شراسة وصفاقة والخشية كل الخشية من أن يتحول العقاب القادم الى الانتقام والتشفي قبل الشروع في حوار من مستوى حوار كامو ومورياك بل قبل التأسيس لمحاكم وطنية عادلة على الطريقة العراقية الشهيرة في العقاب حيث يصبح عقاب كامو في محاكم عادلة نوعا من الترف وفي رأفة مورياك حلماً مستحيلاً لا يخطر في بال أكثر رهبان العراق شفقةً.

17/7/2010

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال