<%@ Language=JavaScript %>  حمزة الحسن في ساعة منعطف تكون: الوحشية بديلا عن الديمقراطية

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات الروائي العراقي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

في ساعة منعطف تكون:

 

الوحشية بديلا عن الديمقراطية

 

                        

 

 حمزة الحسن

 

الاختزالية والتخلف وجهان للعقل المستقيل أو الجهل المتوحش الذي ليس ضد المعرفة ولكنه المعرفة المضادة، أي الخبث المبرقع، والحدود الصلبة بين المواقف والافراد والظواهر نوع من طرد المعرفة وتعميم الجهل الشرس وتحويله الى معرفة بديلة، وشراسة الجهل نوع من الحرن  الحيواني الواثق لأن من طبيعة هذه الشراسة الانغلاق على عالم داخلي مكيّف ومصنّع بحيث ينفي كل ما حوله ويرفض الاعتراف بعالم خارج حدوده وهو الموت العقلي الأكثر قسوة في تاريخ البشر وأفدح أنواع الشقاء الروحي غير المدرك لنفسه، والمقابر تمتليء بهذا النوع من التعساء كما امتلأت بهم الحياة. في ساعات المنعطف الصعبة، حين لا يتم ضبط وتوجيه الناس نحو القانون والمؤسساتية والبناء الديمقراطي، تكون الوحشية هي البديل الغرائزي الجاهز.

 

هناك هوس عراقي نخبوي في الوصم وحجز تذاكر الى معتقلات فكرية أو سياسية أو نفسية أو دمغ بالمفرد والجملة لأفراد ومؤسسات ومراحل حكم وترحيل مستمر لمواقف الى عالم صلب لا وجود فيه للألوان الرمادية والبقع الخفية والمواقف المختلفة كما لو ان هذا العالم العقلي التصنيفي لا يقبل بوجود غير وجوده ولا يقر بحقائق خارجه والعالم متوقف عند مركزية ذاتية يدور حولها كل شيء وهي خارج الحركة بل خارج التحليل لأن الجهل الشرس ينزه نفسه من التحليل ويخلق قداسة بشعة هي التي تجعله مصدر المعرفة والاخلاق والحقيقة.

 

هذا الخطاب اليقيني الوثوقي لا يقول شيئا اذا قال ولا يكتب معرفة اذا كتب ولا يعلن عن حقائق اذا اعلن ولكنه نوع من السلوك الاجتراري التكراري الشبيه بدوران حمير النواعير التي تمشي، اذا كانت تمشي، تحت وهم المشي ولكنها تدور في المكان نفسه. خطاب نفي العوالم الرمادية هو خطاب سلطوي بالمعنى الواسع للسلطة لأن من طبيعة السلطة الحجز والتصنيف والاختزال والوصم والحدود القاطعة والأرشفة وعقلية الأبيض والأسود.

 

الانسان، في خطاب السلطة، محجوز في حيز أو ملف الخطأ والصواب، الجيد والردئ، الوطني وغير الوطني، الملتزم وغير الملتزم( بقيم النظام). خارج حدود السلطة يوجد العدو، التهديد، المختلف، غير الشبيه والكافر( بقيم النظام أيضا) وكل ما هو خارج حدود المؤسسة والنظرة والعقلية هو عدو ونقص وعوز وخطر. الخطاب السلطوي، مؤسسة أو فردا، لا يقرأ الآخر الا من باب الدمج والاحتواء في حال التشابه والحذف في حال الاختلاف لأنه يرى الآخر من خلال هويته هو ونظرته هو وليس من خلال هوية المختلف المعرّضة وحدها للشك والارتياب.

 

هذا هو خطاب النظام عبر التاريخ الذي لم يعد خطاب مؤسسة حكم ولكنه تحول مع الزمن الى عقلية وذهنية ومنهج تفكير وطريقة حياة هي في كل الأحوال مضادة للحياة ولكل أنواع النمو والصحة والأمل والحداثة. خطاب الاختزال الشرس والعدواني المتوحش غير قادر ابداً على مساءلة نفسه وعرضها للنقاش الداخلي لأن هذه المساءلة تحتاج الى بديل فكري من خارج هذه الذات المصابة والمعطوبة والمجترة والنائمة على جبل من الأوهام المتكلسة، ولكن هذا الخطاب قادر على القيام بدور المحاكمة فقط للاخرين وليس انتاج معرفة لأن العقل الاختزالي لا ينتج بل يكرر: أي انه يقوم بخداع نفسه مرتين. الأولى حين يكتفي بذاته ويخرجها من الحساب والحوار والفحص والسؤال والثانية حين يحوِّل الاخرين الى هدف. في الحالتين هو لا يخرج الذات من الحساب ولكنه يحنطها في زمن صلب ولا يقترب من الاخرين لأن من يجهل نفسه لا يعرف الآخر لأن هذا الآخر ضروري لمعرفة الذات وليس ديكوراً.

 

ليس كل أفراد مؤسسة الحكم اليوم في العراق عملاء للاحتلال وأجراء وخونة. عقلية بائع الجملة أو ثقافة الدمغ والاطلاق هي نوع من العمى العقلي الأكثر خطورة من العمى البصري. ليس كل أفراد الحزب الحاكم في المرحلة الدكتاتورية كانوا جلادين وقتلة لأن بينهم ضحايا وابناء عوائل فقيرة ونظيفة دفعهم تاريخ سياسي عراقي منذ منتصف القرن الماضي للالتزام بفكرة الثورة والفقراء والحرية والخبز ولم يكونوا في أشد ساعات الالهام يتوقعون يوما انهم على موعد مع مصادرة كبرى لتلك الأحلام مهما اختلفنا حولها، وعملية انقلابية مستمرة من قبل الدكتاتور نفسه بين عام وآخر. ليس جميع كتاب المرحلة الدكتاتورية كانوا مؤجرين للنظام العام بل كان هؤلاء أطيافاً وألواناً وأصنافاً كما ليس كل كتاب جريدة "الصباح" اليوم هم مرتزقة في مؤسسة سياسية حاكمة لأن فيهم نخبة وطنية تستحق الاحترام والتقدير من كتاب وشعراء ونقاد ومثقفين شرفاء بالمعنى الثقافي للشرف المضاد للابتذال والسوقية. ليس كل الأحزاب الكردية عنصرية، فحتى داخل الشرائح العنصرية الواحدة يوجد المناضل والمنفتح والمتعدد والقادر على الحوار السياسي المهذب بلغة ترتقي الى مستوى عال من الاحتشام والعذوبة والمعرفة والاحترام لأن لغة الحوار هي جزء جوهري من الاخلاق ولا يمكن ادارة حوار السياسة أو الثقافة بلغة كلبية افترائية مبتذلة.

 

ليس كل الأحزاب العراقية العربية خالية من التوجهات العنصرية والطائفية والعرقية والعائلية والعقائدية: حتى في داخل الحزب الواحد يوجد المختلف والرافض والمستاء وغير العنصري والنزيه وغير المرتشي. ليس جميع أعضاء البرلمان هم ديكور زينة للمؤسسة الحاكمة: بينهم المناضل والمثقف والمحتج بالسياسة على الوضع العام والمدافع عن الكرامة والسيادة الوطنية والمال العام. ليس كل عمل مسلح ارهابا أو بالعكس ولا كل المقاومة نزيهة أو وطنية ودمج الجميع في وصف واحد عمل لا أخلاقي ومضاد للمعرفة والحقيقة والصدق والواقع، أيضا.

 

 

ان تعميم الجهل والوصم والالغاء وحجز الناس في خانات ومواقف جاهزة هو خيانة للعقل أولا لأن العقل بحث وسؤال واحتمال،وثانيا، نفي للمعرفة لأن المعرفة رمادية متعددة منبسطة مستوعبة ترفض اليقين المطلق والحبس المطلق والصورة النهائية لأننا لسنا مقبرة تمت فيها نهايات الاشياء والحوادث مرة واحدة والى الأبد والكائن البشري منذ يقظة الصباح وحتى النوم هو سلسلة هائلة من المشاعر والاحاسيس والأحلام والأوهام والصور والأفكار المتناقضة بل انه بسبب هذا التناقض اليومي الداخلي، بسبب الحوار مع الآخر، يتطور ويتجاوز نفسه ويتخطى أوضاعه وبدون ذلك نحن مرة أخرى أمام مشهد كائنات النواعير.

 

الدكتاتور نفسه ليس واحدا في كل الحقب وخلال اعداد المادة الأولية لروايتنا( حارس السلالة) كان يجب العزل الدقيق بين اليتيم والمشرد والصبي السجين والثوري حسب توصيفات تلك المرحلة وبين رجل الاغتيال والسجين السياسي والهارب واللاجئ والنائب والرئيس والمحارب والمتدين أو مدعي التدين وعاشق القصور الفخمة وحليب النوق والوحيد في قصوره الكثيرة والشاكي لطبيبه وصديقه الخاص الرسام عن الوحشة والعزلة وضيق الصدر والحاجة الى البوح وهو السلوك نفسه مع الحدائقية والحلاقين الذين كان يقبل منهم النقد المحدود في اطار العمل الخاص، ورجل الاصغاء والصيد الذي لا يرى في الطريدة غير ماضيه المرير كما لو أن ماسورة البندقية لا ترى غير ذلك الماضي الذي حاول صياغة الحاضر على صورته وشوهه كما تشوّه به وشوّه ضحاياه.

 

كانت هناك حاجة ملحة للفصل بين دكتاتور باطش نزق وبين رجل عاشق لباراسولا اليونانية المحتجزة في قصوره الرئاسية والتي هربت خلال فوضى الاحتلال وأغنية فرانك سيناترا( غرباء في الليل) ولا يمكن تفسير هذا العشق أو شرب الويسكي أو الاصغاء للاغاني من باب السوية الانسانية لأن مشاعر متضاربة منحرفة تتولد في قلب طاغية مسعور ويصبح عالمه غريبا ومقاييسه غريبة، وبين رجل أقفاص الكلاب المسعورة وهي تنهش أجساد معارضيه، بين زعيم سلطة هارب من قصوره المحتلة وبين رجل ينزوي على مسافة قريبة من تلك القصور وهو داخل حفرة يستطيع من خارجها رؤية تلك القصور المضاءة بمصابيح جيش محتل، بين رجل الاعدامات الفورية وبين دكتاتور يحاجج في محكمة، بين زعيم رفض حوار الخصوم والاعداء وحوار شعبه لكنه قبل هذا الحوار في آخر لحظة مع جلاد قرب المشنقة حين تعلق الأمر بوضع الغطاء الأسود حول رقبته وقاية لها من التمزق: تلك الرقبة التي كلفت حلاقة ملايين الرقاب حرص عليها من التمزق حتى بعد الموت.

 

المنهج التعددي في تمدد وتعدد ورمادية الشخصية الانسانية نفسه ينطبق على الرئيس الحالي لأنه هو الآخر ليس واحدا في كل الحقب: من ثوري جبلي رافض لفكرة أن يكون القانون وسيلة دفاع عن قضية بعد التخرج من كلية الحقوق الى رجل منظمة سرية فلسطينية يقوم بمهام رجل استطلاع لأهداف أوروبية خارجية يعتبر من منظور اليوم ارهابيا، ومن زعيم حزب مسلح الى رجل مساومات كثيرة، من مرتكب مجازر بحق الشعب الكردي قبل وبعد دخول اربيل عام 1996 وذبح الشيوعيين في مجزرة شهيرة( بشتاتان) الى انتهازي ذليل ودمية بيد الولايات المتحدة الأمريكية، من رجل مسلح بالأمل الى رجل مسلح بالمال، من الثورة الى المصرف، من العقيدة الى العصيدة ...الخ.

 

الدكتاتوريات الطويلة الأمد تجعل الضحايا ينظرون الى عالمهم نظرة غير سوية في الغالب سواء من خلال التماهي مع الجلاد للتجنب والتحاشي والنجاة أو من خلال التماهي للتقليد. في الحالتين لا يموت الدكتاتور حين يموت أو يُقتل بل يصبح رؤية وطريقة عمل واسلوب حياة. الغريب ان الضحية، كما يقول فرانز فانون، تبحث عن ضحية هالكة في اقذر سلوك بشري انتقائي من أجل التعويض عن ماضيها الذليل ولا تقترب من ضحية قوية لأن جلادها الأول زرع في داخلها الرعب من القوة وتقليد هذا الجلاد بدقة متناهية حتى تتفوق عليه في الوحشية: سلوك الضحايا بعد الاحتلال يقدم صورة دقيقة عن هذا الانحراف البشع في السلوك نتيجة القمع الطويل. انه سلوك تعويض وتنفيس عن اذلال معتق في غياب برنامج وطني يقود الناس نحو المؤسساتية والقانون والديمقراطية في ساعة منعطف.

 

كل السجون في العالم تهرم وتشيخ وتتداعي حتى لو كانت من الحديد الصلب والقلاع الحجرية الصلبة لكن السجون والمعتقلات العقلية والنفسية وحدها تقاوم التداعي والانهيار، وكل الأسرى يعودون يوما من أقفاص الأسر إلا اسرى الذات ومعتقلات الوهم لأن هؤلاء سجناء بلا نهاية داخل جلودهم، وكل السفن والطائرات والطيور تعود يوما الى المرافئ والمطارات والأعشاش إلا سجناء الجلد والحدود الصارمة الباترة والقاطعة لأن هؤلاء لا يحتاجون الى مكان أو مرسى وكل الأمكنة تصبح مراسي للوهم، ولا يحتاجون الى الحقائق الصافية لأن كل نزوة ورغبة وجرح ووهم قادر على أن يتحول الى حقائق، وهؤلاء لا يختلفون ـ رغم الضجيج والصخب ـ عن جلاديهم ولا عن المؤسسات القمعية التي يرفضونها في الشكل لأنهم يعيدون، عبر خطاب الدمج والحذف والوصم والجهل الشرس، انتاج الجلاد والمؤسسة القامعة.

 

هؤلاء في النهاية غرقى وحل الجهل الماكر الذي لا يلغي المعرفة لأنه نوع من معرفة الشر، والنقد الموضوعي لهذا الصنف صادم وجارح لأنه يعكس صوراً مختلفة لذوات تمكنت عبر الوهم من صناعة واجهة مزيفة تعمل بمشقة خارقة لصيانتها من اي اقتراب لأن هذا الاقتراب يشكل نزعاً لخطاب سلطوي شرس ومخرب ووحشي يحاول الظهور في غير شكله الحقيقي ويلغي المسافات الرمادية الهائلة ومناطق التفكير المتعددة وتنوع وثراء الشخصية الانسانية ولا يُكتشف إلا بعد التدقيق وراء الكلمات والمقاصد وهي بارزة في خطاب الجهل كبروز أنياب الكلب عند الزمجرة.

 

20/8/2010

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال