رواية أوراق الزمن الداعر: فضيحة بلون الرماد حمزة الحسن

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات مختارة

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

انقلاب المعايير

وقلب المقولة الغرامشية

حمزة الحسن

 

أكثر من مرة كتبنا هنا وفي رسائل خاصة ندعو الكتاب والادباء والفنانين والموسيقيين والممثلين المتقاعدين والجدد وانصاف الكتاب وارباعهم وحتى بقايا الأسمال الى تكوين جماعات مسلحة دفاعا عن النفس واذا تطلب الأمر عصابات تشليح للصوص السياسة والثقافة. في الثقافة اخطر لأن لص السياسة يسرق المال الذي قد يستعاد أو يعوض أما سرقة ضمائر الناس وبيعهم بضاعة بائرة ومغشوشة فهو الأخطر وتعاقب عليه كل قوانين العالم الا قوانين عالمنا العراقي فهي تشجع عليه بعد التلميع أو تشجع عليه بالصمت والسكوت وتخلق البيئة والمناخ والحاضنة كما فعلنا مع كل أنواع الدكتاتوريات السابقة والقادمة.

 

قبل ساعة من الآن( وقت الكتابة) كتب الشاعر أحمد عبد الحسين في رسالة يقول انه كان قريبا من الانفجار الذي وقع في بغداد ووجد الناس يتساءلون عن هوية الانفجار والفاعل. حتى الانفجار صار يحمل هوية مثل السكين الا الانسان ضاعت معالمه وصار بلا هوية الا هوية القاتل ، حتى الثقافة صارت بلا هوية عدا التهريج، لكن القبور تحمل هوية العزل الطائفي والشوارع تحمل هوية العزل نفسه وكراسي البرلمان بل حتى الحزب الشيوعي نزع كاسكيت لينين ليلبس العمامة ويدخل البرلمان كنائب طائفي لأن هويته الفكرية والسياسية والعقائدية القديمة لا تؤهله للدخول الى مباول الباب الشرقي اذا كانت باقية حتى اليوم لأننا في زمن عراقي هو زمن الزوال بامتياز.

 

مع ذلك تكشف لغة الكتابة في هذا الحرن عن فجيعة كما لو ان اللغة التي نكتب بها( او الاحرى التي تكتبنا) تقول ألا شيء تغير حتى "أنباء الساعة العاشرة" من صباح اليوم، وهو بالمناسبة عنوان رسالة الشاعر الشهيد المتجول أحمد عبد الحسين الذي عقد صفقة مع القتلة مؤقتا. دعوة التشليح وتشكيل عصابات سطو من قبل الكتاب والمثقفين لتشيلخ اللصوص ليست جديدة، اذ سبق للشاعر انسي الحاج في معمعة الحرب الأهلية اللبنانية ان طرحها كخيار أخير لحماية الثقافة والمثقفين أو ما تبقى منهم أحياء.

 

كلمة أحياء لا تعني عكس الأموات بل تعني البقاء شرفاء وأوفياء للكلمة في زمن التعهير المنظم( كما كتب الحداد والمثقف الباسل منير التميمي) وشكرته على ذلك، فرد بدهشة( لماذا تشكرني؟ قمت بواجبي وقد تأخر).

 

لا يا أخي أنت لم تقم بواجبك بل قمت بمعجزة وخرافة وأسطورة في زمن ينقرض فيه كل شيء ويتفسخ وتستحق الشكر لأننا في زمن عراقي يجب أن نقدم الشكر فيه لكل من يجلس هادئا ويشرب القهوة في الصباح دون أن يسكب الباقي على الجيران وينام نوما طبيعيا ولا يسطو على منزل في الحلم أو الواقع وكل من لا يمزق ثيابه في الشارع ولا يبول في قداس جنائزي أو يتعرى علنا أمام الناس ويمد لسانه ساخراً من الجمهور المصدوم من هذه الصفاقة ببلاهة هذا الزمن العراقي قائلا: "فضحتكم" .

 

حتى الفضيحة صارت بطولة ومفخرة والحياء صار هزيمة: زمن غرامشي مرة أخرى وانقلاب المقاييس. زمن ضرطة الوزّان التاريخية وضياع الحساب ليس بسبب جلسة الوزان بل جلسة التاريخ غير المفحوص والثقافة المغلقة واللغة ومفاهيم الحكم والشرف والسلطة والقانون التي تختزل كلها في مفاهيم تجاوزتها حتى المجتمعات الأولية ـ لا أقول البدائية لأنه لفظ ازدرائي استعلائي لأنه بدائي في مواجهة من المتطور؟

 

نحن في زمن عراقي عجيب جدا ومثير جدا وشاعري جدا: شاعري بمعنى رفع كل الأستار والغموض واللف والدوران. علينا ان نشكر في هذا الزمن كل مخلوق أو شبه مخلوق تجلس قربه في مقهى أو مصطبة رصيف أو محطة وتعود الى المنزل بكامل ثيابك واسنانك ووجهك الحقيقي بلا تجميل. علينا أن نشكر كل من يقرأ بأناقة وضمير ويكتب باناقة وضمير ويموت ويأكل ويعمل ويحتضر بأناقة وضمير: نحن في زمن منعطف في غاية البشاعة وفي غاية السوء ولم يعد هناك الالتباس والتداخل والتشابه لأن هذا كان مرحلة أولى وانتهت ودخلنا في مرحلة الوضوح المشع الذي يعيشي البصر: وضوح البشاعة.

 

في هذه اللحظة ـ الوضوح المشع ـ لا تعود الرؤية ممكنة لكل الأهوال والجرائم لأننا دخلنا في زمن تطبيع السفالة بعد محاولات تطبيع الاحتلال وتطبيع الابتذال وتطبيع القبح والاستبداد والنهب: هي المرحلة التي تجاوزت تصورات عالم الاجتماع الشهير دورنكهايم التي يقول فيها وكنت أردد قوله دائما:" الفوضى لا تنتج من غياب المعايير بل من التداخل" وبلغة غرامشي مرحلة المنعطف وتشوهاتها المرضية ولكن الرجعيين أهلنا وأعمامنا كانوا قد قالوها قبل هؤلاء على هذه الصيغة:" مرحلة شلّه واعبرْ" أو المرحلة التي يصعب التفريق فيها حسب المثل العراقي أيضا البذيء ( ما يفرق بين كـ ... واللحاف) وفي هذه المرحلة لا يعود هناك الحساب والكتاب ولا المرجع ولا القانون لأن التداخل في المعايير يشرّع لكل أنواع الأهوال والجرائم ويصبح الفعل الوحيد المقبول هو البقاء حيّاً بصرف النظر عن الطريقة سواء كنت قاتلا أو قتيلا كما تقول أنباء الساعة العاشرة من هذا الصباح العراقي القرمزي المتوقع.

 

لا علاقة للّحاف بالموضوع ولا لذلك الشيء الآخر على الطرف الآخر من السرير، بل المشكلة هي في التداخل والاشتباك والتلاحم والتجاسد والتناكب والتطاحن والتلاوي والتنافس والتصارع كما في قول القرآن( الهاكم التكاثر حتى رزتم المقابر) لكن حتى زيارة المقابرلم تعد ممكنة الا بعد المرور من نقاط موت وفخاخ وعبوات والخ. صار كل من يصل المقبرة للزيارة، حياً، بطلاً ومعجزة وأسطورة، وكل من يعود الى المنزل، منتصف الليل، بكامل قواه العقلية وكامل ملابسه وكامل أسنانه وكامل جسده ونقوده وكرامته يعد خرافة ويستحق حفلاً ليلياً صاخباً.

 

حتى الذين يموتون في وقت مناسب في منتصف النهار، مثلا، في أجواء صحو أمني وطبيعي يعتبر موتهم ثواباً وأجراً وتكريماً. التي لا تلد قرداً او فأراً أو مسخا طاهرة، وصار الضمير إضحوكة وصارت الاضحوكة ضميراً ليس بسبب اللحاف ولا جلسة الوزان ولا كذلك مرحلة المنعطف الغرامشية بل دخلنا في مرحلة جديدة تتجاوز ذلك كثيرا بحيث صارت المرحلة الأسبق قبل الساعة العاشرة من صباح اليوم( زمن رمزي) مرحلة محتملة وممكنة: دخلنا في مرحلة تطبيع التشوه وهي أخطر المراحل.

 

غرامشي تحدث عن مرحلة المنعطف التي لا القديم فيها يموت ولا الجديد يولد فتكثر فيها الكثير من التشوهات المرضية، لكن المقولة الغرامشية اليوم في وضع تاريخي وثقافي واجتماعي مختلف: ليس الصراع العراقي بين قديم يتفسخ وجديد فتي يطلق بلا ميلاد، بل بين قديم يولد من جديد من قلب تفسخه وبين جديد يتفسخ ، بمعنى ان الصراع ليس بين قديم وجديد بل بين تفسخ وتفسخ، أو صراع بين منظومتين من المبادئ السياسية وملحقاتها المنحطة، وهذا الصراع بين جديد هو قديم أصلا وبين قديم يتجدد من خلال التفسخ، أفضى الى انقلاب مروع في المقاييس والمعايير وقلب الأدوار بحيث يجري تبرير كل شيء وتطبيع كل شيء بما في ذلك التشوه.

 

الدخول الى هذه المرحلة يعني نهاية الكارثة أو بدايات الانفراج لأن ما بعدها إما الغرق أو الطوفان أو الحريق الكلي لما تبقى: في مرحلة تطبيع التشوه وقبوله ومناقشته وتقديمه على انه وجهة نظر ورأي وقضية يعني لم يعد يثيرنا العجب العجاب ولا شهر رجب ولا نضج الرطب في الشتاء ولا اتقاد المسمار في الربيع بدل آب الذي يشوي المسمار في الباب. يعني ان ظهور الجن الأحمر أو الأصفر أو الأخضر في منعطف شارع في الليل يعتبر ظهورا عاديا ـ العادي ألا يظهر ـ يعني  أن تكون الأملاك العامة تسرق كل لحظة فهو الأمر المألوف وغير المألوف عكس ذلك. يعني ولادة البغل من ثور هي الولادة الطبيعية. ان يتحول سياسي نهاب الى واعظ هو السلوك الشائع والنمطي. القبض على جائع لسرقة مخبز هو غير العادي وهو الجريمة.

 

في أنباء الساعة العاشرة من هذا الصباح يتساءل الناس عن هوية القاتل ونوع العبوة والانفجار ولا حاجة للسؤال عن هوية القتيل لأن هذا هو العادي في مرحلة تطبيع التشوه. ليس مهما عدد القتلى لأن هذا هو العادي بل عدد القتلة. ان تنزل من غرفتك الى الشارع لتفتح باباً، فيأخذك الانفجار هو السلوك العادي. غلق الأبواب في الظهيرة بالمتاريس هو الصحيح والمألوف: كانت بعض القرى العراقية حتى زمن قريب تشعل أمام الأبواب منتصف الليل النيران لكي تدل التائه وعابر السبيل والمحتاج قبل أن يأتي زمن غلق الأبواب بالحديد المسلح والكاميرات وطرد الضيوف من مسافة ألف متر بالتلويح بالعكَال رمز الشرف الرفيع بأن لا تقتربوا.

 

كمثال على تطبيع التشويه: قبل فترة قصيرة من اليوم كشفنا بالوثائق الدامغة  التي لا تدحض عن حالات تزوير ثقافية وأدبية وعمليات نصب واحتيال منظمة ومنهجية وطويلة الأمد عن عضويات  في ثلاثة اتحادات ادبية وهمية وكتب وهمية معلن عنها منذ خمس عشرة سنة وعن جائزة عالمية متخيلة وهمية في الشعر وغير ذلك، لكن في زمن تطبيع التشوه وانقلاب المعايير والأدوار وبدل النقاش حول هذه القضية الأصلية والخطيرة والتي تدخل في غش ثقافي علني  وبيع بضاعة سامة للجمهور على مدى سنوات في وضح النهار قذف أحد هؤلاء قنبلة دخان في وجوه الجميع وفتح باب طوارئ خلفية للتملص وجعل النقاش يدور، من قلب العجاج والعمى، لا عن فضيحة التزوير الذي على ما يبدو، في الزمن الانقلابي فعلا، صار ظاهرة طبيعية كالمطر وشروق الشمس، وهو لو حصل في بلد بمرجعيات ثقافية وأدبية واخلاقية سوية لأحدث ضجة عاصفة، بل صار النقاش يدور في زوايا أخرى أغرب من الخيال وضاعت القضية الرئيسة في التهريج والصخب والعجاج والمفرقعات والبالونات العاجلة ولم يعد أحد يتساءل، كما صادف اليوم الشاعر أحمد عبد الحسين في مكان الانفجار، عن التزوير والاحتيال والانتحال الثقاقي، بل هل أن كاتب مقال التزوير ذكر أم انثى؟ هل صحيح ان المرجع الفلاني غير مختون؟ وماذا كان يركب الامام: هل هي فرس أم جواد؟

 

قلت للشاعر أحمد عبد الحسين في الرد الجوابي : توقيت ساعتك العاشرة هناك هو التوقيت هنا( التوقيت الأخلاقي) والانفجار هناك يتم الاعداد له هنا، واذا كان الذين صادفتهم في شوارع بغداد يتساءلون عن هوية القتلة، فإن الذين هنا على العكس يتساءلون عن خصيان القتيل. هل هي صغيرة أم كبيرة؟ تدر ماءً أم ذهباً؟ يقذف رملاً أم عسلاً؟

 

وكما مرق القتلة من شارعك، مرق المزوّر هنا مع فارق واحد: ان القتلة مرقوا هناك بسبب تداخل المعايير وتشوهها وغموضها وقنابل الدخان، أما هنا فبسبب الوضوح المشع الذي يجعل الرؤية ساطعة جداً، والرؤية الساطعة في زمن انقلاب منطق الاشياء وعلامات موت الواقع وتطبيع التشوه أخطر بكثير من قنابل الدخان لأن الأخيرة تتطاير في الريح في دقائق أما الوضوح المشع( عادة غسل العار وظهور الشمس الدائم في دول البحر المتوسط، وعدم احترام الوقت، مثلا) فهو يعمي ويسميه علماء الاجتماع العمى الاجتماعي لأن الحقائق المشعة لا ترى بسبب الظهور المتكرر، ويتحول هذا العمى الى سجون متنقلة لموتى يركضون، الآن. بما أننا في زمن انقلاب كل المقاييس، أقول انني بريء من هؤلاء جميعا براءة ابن يعقوب من دم الذئب ـ حسب انقلاب منطق الاشياء في زمن تطبيع التشوه.

10/7/2010

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال