الحياة ليست نزهة في حديقة: كوابيس الشاعر أحمد عبد الحسين الصراع على الجبهة الثقافية حمزة الحسن

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

الحياة ليست نزهة في حديقة:

كوابيس الشاعر أحمد عبد الحسين

الصراع على الجبهة الثقافية

 

حمزة الحسن

1

 

يبدو ان الشاعر أحمد عبد الحسين دخل في الطور الأخير من البحث عن قاتل مأجور لكي يضع حدا لحياته في موت تراجيدي أيضا وعلني وشاعري في زمن عراقي فقدت المأساة مهابتها وصار الموت الشاعري الوحيد هو كتابة الوصية وترك الباب نصف مغلق ونصف مفتوح في انتظار وصول القتلة كما في قصة" القتلة" للروائي أرنست همنغواي، حيث القاتل يحدد كل مرة موعدا جديدا ولا يصل في الوقت المناسب. هل هناك قاتل وصل في الوقت المناسب؟ وهل هناك وقت للقتل ووقت للحب؟

 

آخر معارك الشاعر أحمد عبد الحسين مع المؤسسة الثقافية وبصورة خاصة الاتحاد العام لكتاب وادباء العراق ـ قد لا يكون الاسم صحيحا وربما بالعكس ـ واعلان الاستقالة من عضوية المكتب المركزي لأن الشاعر غير قادر كما يقول كتاب الاستقالة على أداء مهامه ولكننا لا نعرف ما هي مهام الشاعر أحمد عبد الحسين في عضوية مكتب مركزي؟ بل ماذا يفعل الشاعر هناك وما هي نوعية المهام  التي يجب القيام بها؟ هذا الشاعر اعلن بتبجيل طقسي واحترام راق للتقاليد وباسلوب متحضر استقالته من عضوية اتحاد كتاب العراق، لكن هل هذه العضوية على درجة كبيرة من الأهمية  لأن هذه العضوية صارت مجانية وهناك ـ يعرف اتحاد الكتاب المركزي ذلك ـ من يحمل هذه العضوية بلا مؤلفات ولا طلب انتماء ولا بطاقة عضوية ولا موافقة ولا هوية بل ولا توقيع ولا صورة بل يقاتل من أجل انتحال وتزوير بدون أي دفاع: وهي مفارقة غريبة في ان الشاعر أحمد عبد الحسين يستقيل علنا من عضوية مكتب مركزي في الاتحاد في حين يحارب هادي الحسيني من أجل عضوية عادية ومنتحلة ومزيفة؟ لكن لماذا هي مفارقة؟ أليست هذه هي حال الزمن العراقي اليوم في تداخل وتشابه الاشياء والوجوه والمواقف في هذا الدخان والضباب والعجاج؟

 لم يحرك الاتحاد ساكنا من جهة هذه العضوية المزيفة رغم التنبيه المستمر من كتاب وأدباء داخل وخارج الوطن كما لو ان التزوير صار جزءا من نظام البشاعة العام، في الأقل من باب الحرص على كرامة هذه المؤسسة الادبية وكرامة المنتمين لها لكي لا تتحول العضوية المجانية في هذا الاتحاد الى مهزلة أكبر، فحتى المقاهي والمطاعم والنوادي والحانات تتطلب للدخول اليها شروطا أقلها الحفاظ على الذوق العام والهدوء العام وقواعد الجلوس والانصراف والدفع وغيرها. 

حين طُرد الروائي بوريس باسترناك من عضوية اتحاد الكتاب السوفيت بعد نشر روايته( الدكتور زيفاكو) في الخارج وفوزه بجائزة نوبل، علق أحدهم على هذا الطرد على أن الكاتب ليس ببغاءً لكي يعيش في قفص، وكرد من باسترناك على قرار الطرد والحملة الصاخبة المرافقة، انتقل للعيش في الريف وقطع كل صلاته المقطوعة أصلا مع الحزب والمؤسسات الثقافية حتى مات وحيدا ولم يحضر جنازته سوى بضعة ريفيين من المنطقة أحضروا مسجلا وضعوا فيه موسيقى شوبان(باخ؟) الحزينة وكتبوا بناء على وصيته مقطعا شعريا له على الواجهة الرخامية يقول: الحياة ليست نزهة في حديقة.

لا أظن الشاعر أحمد عبد الحسين يتصورها نزهة في حديقة لا بالمعنى الرمزي ولا الواقعي لأن العراقي اليوم يعيش مرحلة ما قبل ظهور الحديقة، لكن ما الذي يدفع هذا الكاتب والشاعر الى الخروج عن السائد والمألوف والمؤسسة والنظام والتشابه في زمن عراقي مسلح بكل أنواع الأسلحة والاحتجاج على المؤسسة السياسية مرة وعلى الثقافية مرة أخرى كما لو انه مستعجل من أمره وعلى موعد مع قاتل همنغواي لأن الإنتظار الطويل ممل  خاصة في صيف عراقي مهلك يشعل الحجر والحديد والخيول والنهود والاحاسيس ويحرض على النعاس والشعر والمخاط والسباحة والجنس والجنون بلا بطانيات انتخابية مستوردة أو محلية؟

مشكلة هذا الشاعر ليست خارجه ولا في المؤسسات وحدها التي يحتج عليها بل في صورة هذه المؤسسات الذهنية في عقله لأن أحمد عبد الحسين "يؤمن" بأن صورة العالم، والعالم العراقي بصورة خاصة، يمكن أن تتغير بالاحتجاج والشعر والوضوح والسجال والندوة والصراحة والطفولة، ولا يعرف ان هذا البناء الهندسي للأطفال هو لعب خطير بالنار في لحظة عراقية عاصفة قد تطيح بكل شيء في أي وقت، لذلك اقترح على أصدقاء ومحبي هذا الشاعر حجره بعض الوقت أو ربطه بالقوة لكي يكف عن الطفولة وعن الاحتجاج وعن عض الاسفلت بالاسنان لكي تصبح حياتنا أفضل وأجمل ونعيش عيشا هانئا ونموت موتا هانئا وطبيعيا أو في الأقل على طريقة باسترناك التي تبدو ترفا عراقيا.

من وجوه مشكلة هذا الشاعر هي القضية من الاختلاف الثقافي والفكري والادبي والسياسي. في مجتمعنا هناك عجز مخيف وواضح في القدرة على بناء مساحات حقيقية للاختلاف وهذا العجز لا يعالج بالشعر أو بكلام أدق بالرؤية الشعرية الذاتية الانقلابية القائمة على مشاعر الالهام والحب والرغبة لأن مؤسسات أحمد عبد الحسين في السياسة كما في الأدب وفي الثقافة تعيش فيها فصائل من الحرس القديم الادبي والسياسي والحرس الجديد الأدبي والسياسي وفي المؤسستين هناك عقلية الاستحقاق المبنية على كل الاعتبارات الا الثقافي  أوالمعرفي والقانوني كالعمر والحزب والايديولوجيا والموقف السابق واللاحق والأقدمية في الهروب، وكما أن التراتبية والأقدمية في الجيش قضية حاسمة كذلك في المؤسسات السياسية والثقافية والادبية، لذلك تلوح معركة الشاعر خاسرة سلفا أمام قوى عريقة في الصراع غير الادبي وغير الثقافي وغير السياسي على الرغم من أن شرف معركة أحمد عبد الحسين ليس في نتيجتها بل في غايتها وهذا هو نبل هذه المعركة وخطورتها القادمة على حياة الشاعر.

 جانب آخر من جوانب مشكلة هذا الشاعر هو سحب تقاليد ثقافية عريقة ورصينة من المنفى على واقع عراقي صارت فيه الرصانة سلعة غريبة كمن يعود من المنفى وهو يحمل بطاقة الضمان الاجتماعي ورقم هاتف طبيبه الخاص الى مجتمع صار الضمان الاجتماعي لكلاب الحراسة في نقاط التفتيش أهم من ضمان الناس، وصار الاطباء فيه يقتلون في العيادات والبيوت والشوارع كصيد الساحرات في القرون الوسطى، مجتمع خرج فيه مجانينه في انقلاب خطير في المعايير من المصحات العقلية لتنظيم حركة المرور والحفاظ على القانون الخارجي( لا علاقة لمجانين العراق بالقانون النفسي الداخلي) في حين صار عقلاء الوطن يتقاتلون على الأسلاب.

 هذا التلبيس من واقع على آخر قد يدخل الشاعر أحمد عبد الحسين وصعاليكه في مهلكة يوما ومن معرفة طيبة أدري( ليتني لا أدري) ان الشاعر ليس وحيدا في معاركه الادبية والسياسية لا في الداخل ولا في الخارج لكن هذه الصحبة الخيرة لا يعول عليها خاصة وان الشاعر أحمد عبد الحسين قرأ جيدا واقعة كربلاء وربما أفضل من غيره.

في الدول ذات التقاليد الثقافية والسياسية العريقة والمؤسسات القانونية والنخب الادبية المشرع لها حقوقا انسانية وثقافية بقانون يقوم الكتاب كل يوم بصراع علني ومفتوح في كل المنابر من أجل اغناء الحياة العامة حتى أن الروائي الألماني، مثلا، غونتر غراس يعتبر صداعاً يوميا للمؤسسات السياسية والثقافية من خلال اثارة النقاش الحيوي في قضايا الثقافة والحياة، وهناك من لا يستطيع بناءً على هذا النقاش الحيوي من يتصور شكل الحياة الثقافية بعد توقف قطار غراس في محطته الأخيرة، وفي كل الدول الاسكندنافية ذات التقاليد العريقة في الضمان والحداثة والديمقراطية يخوض الكتاب كل يوم صراعاً قوياً وصاخباً في قضايا كثيرة بعد أن حسمت بصورة قاطعة قضية الاختلاف وشرع هذا الحق في قانون ودستور وسلوك وتقاليد وصار الحق في الشك حقا مشروعا بناء على معلومات ووثائق حتى ان كتابا صدر قبل فترة عن ملك النرويج يشكك بصورة قوية موثقة في كونه الإبن الشرعي للملك السابق ويقول الكتاب إن الملك الحالي هو ابن طبيب الملك وكل ما فعله هذا الملك الحقيقي هو الضحك والخروج باسما للناس قائلا ان البحث في الوثائق مضمون للجميع ـ بلا قوات حرس ملكي تمسح مدينة كاملة ولا اعلان طوارئ وانتهى الأمر بولادة حقيقية لملك حقيقي من خلال ثقة باهرة بالنفس ومجتمع يتمتع بتبجيل يصل مستوى التقديس للقانون والوثيقة والحرية والفردية والخطأ الفردي: حتى (الخطأ الانساني) مشرع له فقرة في القانون، لذلك تبدأ مغامرة الفكر والشعر والحرية والجسد والمجتمع والزمن حين يشعر الجميع انهم أحرار في دولة حرة.

هناك خشية حقيقية من أن يمضي هذا الشاعر المصاب بعقدة النكوص الطفولي التي تصيب الشعراء والعشاق( وهم أكثر شجاعة من الرهبان بتعبير بودلير) في أن يمضي مع هذه اللعبة الى النهاية بالقوة والصورة والطريقة نفسها من غير ادراك ان اللعب في  بحيرة التماسيح غير مأمون العواقب لأن عقل التمساح في أنيابه ولا تستطيع كل قصائد العالم ايقافه عن القضم والالتهام والتمزيق، ولا يُفهم من ذلك اننا مع الشاعر أحمد عبد الحسين وكوابيسه وصعاليكه ولا ضد الطرف الآخر لأن هذا الموقف المانوي الثنائي بين هذا وذاك ليس ثقافيا ولا فكريا لأن الشاعر نفسه لا يخلو أحيانا من صورة خصومه وهو أمر طبيعي لأن الداخل في نفق العراق الحجري المسخم لا يخرج ناصع البياض، وربما خصوم الشاعر يحملون أحيانا بعض مواقفه. 

لكن الافراط في هذه العقلانية لا يلغي القول إن هذا الشاعر في خطر حقيقي كعصفور صغير فرح بخروجه من العش لأول مرة لكنه وجد نفسه على حافة هاوية ولا يعرف ماذا بعدها: ومن باب الحرص والحب والأمل والخوف والقلق والثقة والجنون واللاعقل والشطح والمغامرة والتجاوز اقول للشاعر أحمد عبد الحسين لا تصدق ما قلته أعلاه واقفز في الهاوية لأن المبلل ما يخاف من المطر ولا الأجرب يخاف من أكل البصل ولا المفلس يخاف من السطو على القافلة.

 

2

شركاء في التناقض والأمل

" الى أحمد عبد الحسين: شركاء في الأمل، أيضا".

الألم المشترك مثل كرة القدم ومواجهة عاصفة بحرية أو خندق حرب أو مجاعة أو زنزانة إعدام أو حفل موسيقي أو وباء يخلق هوية مشتركة قد تكون ظرفية أو دائمة لأن الألم المشترك يخلق قرابة انسانية تتعالى على كل شيء آخر بما في ذلك الخطر والعرق واللغة، وفي لحظات استثنائية خاصة تكاد أن تكون صورة من صور الدين في شكله النقي: من المستحيل نسيان ذلك المشهد في حرب الخليج الأولى في الجبهة الجنوبية وفي نهاية قتال دموي ومباغت التحامي استمر من العاشرة ليلاً تحت المطر في مستنقعات الأحواز الدغلية والقصبية حتى طلوع الفجر الذي لا يشبه أي فجر آخر في التاريخ حين رأيت جنديا ايرانياً جريحاً وجندياً عراقياً جريحاً أيضا مصابين بجرحين بليغين يتعكزان على بعضهما ويتعثران في الضباب والدخان والحرائق والجثث بحثا عن مكان آمن بعد أن تلاشت أسطورة الدم والعرق والتاريخ والهوية التقليدية والحرب والمصلحة، وخَلَقَ الألم هوية مشتركة متعالية متسامية على لحظة الحياة الراهنة وعلى الموت أيضا: ذلك المشهد المأساوي الفريد أسقط منظومة كاملة من الخرافات بمشهد مرتجل لكنه يكفي للتأمل العميق: حين كتبت هذا الكلام الى الصديق البروفسور شموئيل موريه ـ سامي ـ العراقي اليهودي واستاذ الادب العربي في الجامعة العبرية في القدس، كتب يقول:( أنت لم تر معجزة، بل هي بداهة الحياة في لحظة عري وبراءة تضيع في الحقد) لكني مازلت مصراً على انها معجزة: فحين ترى الحياة في هذا الضجيج والتداخل والتشابه والحرب والقتل والانتقام والتصفية، فهذه هي المعجزة.

 

مقالك المهدى لنا( الى حمزة الحسن: شريكي في الألم) وضعني في مناخ مؤامرة أو ورطة أو مخطط ضد أشباح أو بكلام أدق صدّر لي بعض أشباحك الحقيقية وربما تدري أن فائض هؤلاء عندي يفيض عن مساحة الصحراء ومن كثرة المؤانسة معهم صرت( كما كتب أحدهم بفخار وتباه قبل ساعات يمكن عدها ) لا أستطيع النوم إلا بعد الإطمئنان على الأشباح بل صرت أسرح كل ليل في مراعي الأشباح وأقضي الليل كله مختبأ تحت السرير حتى  يمر الشبح المزعوم وبعدها أخلد للنوم ـ قد لا تصدق ان شخصاً حقيقياً قد كتب مثل هذا الكلام ولكن في عالم السيرك والتهريج والأقنعة كما تقول صار كل شيء ممكناً، لأن الإمكانية لم تعد تستمد مصدرها من القدرة بل من الدوي، ليس من النشيج على قول إليوت بل من الضجيج، وكما أن هناك من يفاخر ويتمتع بالخير، هناك من يفاخر ويتمتع بالشر: إن أقصى تدهور في حياة  انسان حين يصبح الشر الصافي موضوع لذة. لكن الفارق بين أشباحك كما أتابع واقرأ انها تقول اشياء كثيرة تتعلق بالشعر والثقافة ودور المثقف والحكمة والحق في الاختلاف، وبين اشباحي ـ لا تضحك، لطفا ـ التي مع الأسف لا تمتلك حتى مهابة الشبح ولا تحفز إلاّ على المخاط: لماذا لا تقبل المقايضة ونتبادل الأشباح؟

مادمنا في مجال الأشباح، لأن البعض لم يعد لديه ما يباهي به غير موهبة الشبح، أي موهبة الشر، ولم يعد الحياء الانساني النبيل قادرا على إعاقة هذا النوع من الاعتراف بالجهل( والجهل هنا حسب ميلان كونديرا ليس عدم المعرفة بل المعرفة المضادة الشريرة وهي نوع من العلم كما يقول سوّاق العراق الحكماء) أعترف لك بهذه الحادثة: حين وصلت الى هنا قبل عشرين سنة، عشت سنوات في عزلة تامة عن أي وسط، ولم تكن صاحبة المنزل تعرف هل أنا حي أم لا الا نهاية كل شهر حين تستلم من المصرف الإيجار الشهري حسب التقليد السائد هنا في الدفع عن طريق المصارف ولكنها تجرأت يوما وطرقت الباب ودخلت وكانت تنظر الي كما ينظر الانسان الأرضي الى مخلوق فضائي: ـ هل تعيش لوحدك؟ سألت صاحبة المنزل. قلت: لا، لست وحدي. مع من تعيش؟ سألت بذهول فقلت على سبيل المزاح: أعيش مع أشباح. وهل تتكلم مع الأشباح؟ قلت: نعم. وهل يتكلمون معك؟ قلت: لم لا؟ يتكلمون. ووضعت قدح القهوة أمامها لكنها اعتذرت وخرجت بما يشبه الفرار لكن يبدو انها قامت بمراجعة طويلة للحديث لأنني بعد أيام استلمت باقتي زهور وضعتا أمام الباب في الصباح مع ورقة تقول: واحدة لك وأخرى لأشباحك.

هل رأيت؟ حتى الهواجس تُحتَرم في عالم الأسوياء، حتى الأشباح تستلم باقة زهور وليست معارة: هو الفارق بين الثقافة وبين البراز، بين المعبأ بالضوء والمعبأ بالعتمة، بين انسان رضع الفردية والحرية والاختيارات الانسانية وبين مخلوق رضع التسلط والتملك والاستحواذ والأحادية: بين انسان يضع التناقض في مستوى الجمال والنبل والكرامة والقانون والحق وبين مخلوق يضعه في مستوى الجذام والمرض والعوز، انسان يؤمن من دون حاجة الى تفكير أو جهد ارادي لأنه ولد في مناخ سوي بأن الانسان ليس سطحا ظاهرا بل طبقات كآلة أورغن تعزف الألحان بعمق لأن النغم لا يصدر من سطح الآلة بل من نظام الأصابع، من اللغة الراقصة كخيول تركض في برية مفتوحة على النهار والسهل والأمل والفرح: هل رأيت الأمهار الصغيرة وهي تركض لأول مرة في الربيع؟

 كنت أصاب بلوثة من كلمة تناقض لأن هذه الكلمة كانت تعني ان الانسان مشطور الى نصفين لا يشبه أحدهما الآخر الى أن حررني السجين غرامشي في دفاتره من هذه اللوثة العقلية المتوارثة من ثقافة أحادية ومن ذهنية اللون الأبيض والأسود، وعقلية المع والضد، وكان يمكن أن يكون الوقت أطول لاكتشاف هذه الحقيقة البسيطة والمدهشة: ان التناقض في المواقف والمشاعر والأحاسيس هو جوهري في الانسان كما في الاشجار والحشرات وان الحياة مصممة على التناقض ومن الغريب اننا لا نفرق بين التناقض وبين الصراع، ولا بين التناقض الطبيعي والتناقض السياسي، والتناقض الفكري، والتناقض العاطفي، وندمج بين كل التناقضات في مرجعية واحدة: وماذا يعني أن أكون متناقضا؟ رد مرة غرامشي ضاحكا على منتقديه الذين كانوا يصرخون كما لو انهم ضبطوه متلبسا في موقف حرج: "هذا تناقض، هذا تناقض".

ريجيس دوبريه كتب يقول في كتابه:(نقد العقل السياسي):" لا أعاني من تهديد أن أكون متناقضا، ولكن من تهديد ألا أُفهم". ان العجز المعرفي عن بناء مساحات واسعة رمادية ليس عجزا ثقافيا فحسب بل هو حالة عوق جسدي بالمعنى الحرفي لأن كل فعل ـ أشدد على كلمة: فعل ـ سيكون نتاج هذا العوق، وهذا العوق مراوغ وماكر وساخر لأنه يظهر في صورة أو فكرة أو قناعة قوية وواثقة وسلام هو سلام الأبقار المجترة قرب المسلخ حين لا تستطيع إدراك ان لون العشب الأخضر هذا ليس ثابتاً لأن اللون القادم هو الدم الأحمر: لون هذا الهدوء المنظم والعابر والوقتي.

 لا يجب أن نغرق في الدفاع عن التناقض ويصبح مبرراً للكذب لأن المشكلة اليوم في عالمنا العراقي ليست الخلط بين المفاهيم وحسب بل سرعة الاستعارة والتلبس أو اذا شئت التلبيس لأن ما ينقصنا اليوم ليس الذكاء الذي يعاني من وفرة وافراط بل نعاني من ندرة الضمير: الذكاء مهارة والضمير خلق، الذكاء كتاب لكن الضمير كائن داخلي يموت أو يضمر بلا استعمال مثل أي عضو جسدي آخر ـ هذه ليست وجهة نظر فلاسفة أو حكماء بل وجهة نظر علم التشريح.

الشطارة اليوم تعادل موت الانسان وهذا الموت ليس الانقراض العضوي بل المسوخية: غريغور سامسا في رواية( المسخ) لكافكا وجد نفسه في الصباح وقد تحول الى حشرة كبيرة لكن غريغور رغم انه تغير من الخارج، في الشكل، لكنه ظل في الداخل محافظا على الصفاء الانساني بشكله السوي، بل كان التفسخ والمسوخية والتحول يتم في الغرف المجاورة، غرف المنزل، وداخل العائلة، وحين تغير عالم العائلة بعد محنة غريغور وصارت تفكر في شراء منزل جديد وترك هذا المنزل العائلي وظهرت علائم السخرية والضجر من وضعية غريغور، ظل هو محافظا على نقاء داخلي مشرق وعلى لغة صافية عذبة حية توحي انه الانسان الوحيد في منزل المسوخ: المسوخية ليست مظهرا، مع الأسف، لأننا نرى المشهدي والمنظور والمرئي والكتلة والحائط والشعار، ولكنها حالة داخلية تستطيع أن تحافظ على الشكل العام المقبول وتدخل في كل الرهانات وكل المسابقات بما في ذلك مسابقات الجمال بذريعة أن أحدا لن يرى غير المرئي، كما ان هذه الظاهرة تقع في لحظات المنعطف عبر التاريخ وفي الأساطير أيضا: فلكي ينتصر البطل الأسطوري في لحظة منعطف يجب أن يهزم المسخ. هذا كان يحدث حين كان الفصل واضحا حتى في الأساطير بين الأبطال والمسوخ، وحين كانت مراحل التاريخ تُفتتح بالأبطال وموت المسوخ، وليس في زماننا هذا حين صار التاريخ يبدأ بمسخ وينتهي بآخر، ويصبح الانتحار بطولة.

الأدب العراقي كرس الشخصية النمطية السطحية المنسجمة الواضحة القسمات وليست السياسة وحدها ذات البعد الواحد، والتناقض في الشخصية الروائية كان حتى الأمس القريب ومايزال حتى اليوم في عرف قراء الافتتاحيات والمنشور يُقرأ على أنه خطأ في بناء الشخصية وفي نظام السرديات، لأن الانسجام، حسب هذا المنطق، يعني التماسك وهذا يعني الشجاعة والعقل، واذا استمر التداعي نصل الى منظومة ذكورية فروسية وقد ندخل في الايديولوجيا التي سطحت الانسان وأفرغته من المعنى وعبأته بالمفاهيم مع ان الانسان نظام هائل من الخواص المتناقضة من لحظة الاستيقاظ حتى الحلم، ويدخل في غابة مشاعر متصادمة كل يوم الا اذا كان صنماً، والانسجام لا يتناقض مع القلق ولكنه يختلف عنه، كما الموت لا يتناقض مع الحياة بل يتضمنها ويختلف عنها، كذلك الألم لا يتناقض مع الأمل ولكنه يختلف عنه في الشكل: الألم يتناقض تماما مع اليأس ويتقاطع معه لأن الألم ظرفي وعابر ومؤقت كالرغبة والمتعة واللذة في حين يكون اليأس مركزياً وثابتاً، الألم حركة الى الأمام لكن اليأس مراوحة، الألم مشي واليأس ثبات.

الألم، حسب أرسطو، نابع من توقع الشر، وهناك، كالشاعر الألماني هاينريش هاينه، من رفع الألم الى مرتبة متعة الجمال، وكان تشيخوف، كطبيب، يقول ان منظر امرأة بعد لحظة الولادة منظر فريد في الجمال والصفاء والحرية والانتصار والبراءة ـ البراءة تنتصر كل لحظة لكن بلا ضجيج لأن هدف معركتها في غايته وليس في نتائجه: البراءة تقرب المسافات، كالألم الصافي، وتخلق هوية مشتركة تتعالى على هوية الدم والقرابة. هل لاحظت كيف يتعارف الأطفال في محطات القطار والحافلات والحدائق بسرعة في حين يكون الآباء جالسين على مقاعدهم ينظرون الى بعضهم بغرابة؟ هو الفارق بين الثقافة وبين الطبيعة، بين اللغة وبين القلب، بين الغابة وبين المصطبة: المصطبة بالمناسبة لا تتناقض مع الغابة بل هي جزء مقطوع منها لكنه أختلف في الشكل.

تعرفت على أشخاص في هذه الحياة لا يعرفون الكذب، ولكنهم على درجة فظيعة من الصفاقة وبالعكس، وعلى أشخاص على استعداد للموت جوعا بدل السرقة ولكنهم على استعداد للقتل من ملاحظة عادية تمس بعض المشاعر، وعلى نماذج قد تمرض من مشهد طفل يتوجع ولكنها مستعدة لابادة قرية كاملة في حرب: التقاطع الحاد بين الخواص الانسانية لم يعد مقبولا لا في التجربة و لا في العلم: ليس الطبيب نزيها دائما، وليس المجرم مجرما في كل الأحوال، ويتعلم كل روائي، مثلا، منذ البداية، على نظام تعدد مستويات الشخصية. أعرف صديقا معرفة طيبة تماماً يعيش مع عائلته في المنفى، وحين يأتي الليل يأوي الى غرفته في الطابق الثاني ويغلق الباب على نفسه( أم يغلق نفسه على الباب؟) وهناك بعد منتصف الليل يستدعي عالمه القديم الحافل والثري والحزين والمبهج ويستدعي شوارعه القديمة بصورة خاصة ويبني عالما موازيا لعالمه الواقعي بل أجمل منه، لكنه، يقول لي صراحة، لا يعود من ماضيه وهو في غرفة الطابق العلوي الا على صوت تلفاز العائلة أو حوار عائلي مسموع. كان من الصعب تخيل ذلك لكن حين قرأت مصادفة رواية( رجل في الظلام) لبول أوستر مؤلف ثلاثية نيويورك الرائعة، تعلمت أكثر ان اختراع حياة بديلة في الواقع وليس في السرد فحسب أمر ممكن لأن الحياة النفسية أكثر عمقاً مما يظهر على السطح الذي نتفق ـ وهذا غريب ـ على انه هو الحقيقي وأي خروج منه يعد تناقضاً، نقصا، مرضاً: عقل يشبه المطرقة كل مشكلة تبدو له مسماراً.

أتابع، من غرفة الطابق العلوي أيضا، بعد منتصف الليل ومن قلب الظلام الأبيض الوامض من ثلوج ناصعة أو وفر هاطل، حواراتكم الأخيرة التي أخذت تتصاعد في الأيام الأخيرة، بل أمس نصحك أحد الأعزاء بالخروج ( من حالتك المرضية) لكنني أنصح، في التعريف النسبي للمفاهيم وقد صرنا نختلف حول تعريفات جديدة كل يوم، مع كل الرجاء بألا تخرج منها ولا أدري أين تذهب اذا خرجت معافى من كل لوثة ومرض وعقدة الى شوارع الرعب والموت والذبول؟ مع ان جحيم العراق أصاب الكثير من سكان العالم بالمرض عبر المشاهدة والقراءة ولكننا أدخلنا حتى المرض الحقيقي أو المتخيل وهو خارج نظام الارادة والاخلاق في دائرة الاحتراب والاخطاء والجرائم مثل كل الحقوق الانسانية العادية: أشعر أنني أحد الخاسرين من تغير لغة الحوار لأنه أسقط أحد أحلام غرفة الطابق العلوي الليلية وصرت أخشى أن تتشابه الأشياء والصور واللغة والمنافي ويسقط رهان المنفي في أن نيران الوطن قد تكوي قلوب الكتاب والشعراء والفنانين ولكنها لا تحولهم، رمادا: قد تشعل وتضيء ولكن لا تحرق، ورغم ان هذا هو الألم المشترك( لا تحترق ولا تنطفيء) لكنه يلوح انه يتحول الى مسافة ومصيدة مثل كل شيء، كل شيء.

لا أدري ماذا يضر الأصدقاء أن تكون متناقضا؟ هل لأن التشابه أقدم من الاختلاف؟ ماذا سيخسر الوطن أو الأدب أو الشعر أو الكتابة؟ عود ثقاب واحد لن يتزحزح من مكانه، طابوقة واحدة لن تسقط من بناء، شرطي واحد لن يغير أفكاره، بائع كباب واحد لن يحزن، سيارة مفخخة واحدة لن تغير موعدها، صاروخ لن يغير مساره، عاشق واحد لن يؤجل موعده، قارئ ميزان كهرباء واحد لن يتأخر عن العمل، حصان واحد لن يحرن، قدح شاي واحد لن ينكسر ...الخ. لماذا يجب أن نكون متشابهين في هذه الوفرة من التشابه؟ ماذا يعني تطابق الآراء في حقل الفكر والشعر والكتابة وهو أمر لا يحدث حتى في مقابر اليوم حيث نجد التنوع في كلمات الشواهد الرخامية: من وصايا بالذكرى الى مقاطع من شكسبير، ومن اقوال السيد المسيح الى أقوال ماركس، بل كنت أقطع درب أحدى المقابر قبل أيام، مسرعا، في الطريق الى المسبح العمومي، حين قرأت، فجأة، شاهدة رخامية كتب عليها:( لا تسرع، الموت أسرع) فخفضت السرعة فعلا ولم أدرك أول الأمر ان الأمر صدر من ميت وان من الممكن محاورة الحجر، وأحد المشاهد الحية (المتناقضة) منذ سنوات وحتى اليوم وكل نهار سبت صيفي أن سودانياً يعزف الموسيقى بآلة محلية تشبه الغيتار الصغير ويرقص على الايقاع ويجمع حوله حشد من الفتيان والفتيات المبتهجين لكن أحدا منهم لا يدري شيئاً عن مضمون الأغنية نفسه بلا تغيير وهو:( وكل نفس ذائقة الموت) ويرددها بايقاع راقص ايقاعي وحوله دائرة مبتهجة بهذه الانغام الغابية كعزف قادم من غابة عريقة في المطر والضوء والسكون والقدم: التناقض هنا في اللغة ولكن ليس في الرقص والفرح، والانسجام قد يُخلق من التناقض كما من الاختلاف ولكنه ليس انسجام الموتى.

قرأت لك قبل أيام مقالة( معمار البراءة) وتوقفت عند سؤال: "هل بقي فينا من الطفولة شيء يعيننا على الكتابة؟" ذهلت كيف لم أطرح مثل هذا السؤال يوما، ولكنني، في غرفة الطابق العلوي، بعد منتصف الليل، اكتشفت وجعا يتجاوز الألم الجميل، لأن هذا السؤال لا يطرح الا حين تُسمع أصداء تهشم، والبراءة تقاوم طويلا أكثر من المعرفة والفكر والفلسفة والسلطة، ومن المستحيل أن يصبح البريء وضيعا لكن من المحتمل جداً أن يصبح مجنوناً ومن المؤسف، بتعبير أورهان باموق، ان الجنون ليس خياراً: لكن لماذا تقاوم البراءة وتكون النتيجة إما الانهيار التام أو الخروج التام لأن البراءة لا تتحمل أنصاف الحلول ومن هنا ربطها بالأطفال؟ البراءة ليست خياراً وهي اذ تتجاوز الفكر لأنها أقدم من الفكر وأعرق من الثقافة وأقدم من اللغة التي هي اختراع حديث مقارنة مع زمن ظهور الانسان، لذلك حين تلجأ البراءة الى الجنون أو الانتحار أو العزلة وهي العناصر الثلاثة التي تغلق الباب في وجه الخطر أو القوقعة التي تحمي من العصف أو صمام أمان وقف التيار، فلأنها تعود الى الأصل، الى الغابة، الى ما قبل الثقافة، قبل الانتهاك، قبل الحضارة، قبل تطور الوحش وظهور متعة الشر( وهي ظاهرة حديثة لأن الانسان في الأزمنة القديمة كان يلجأ الى القتل في ظرف ما من دون تمتع) الى زمن النشوة الصافية بالمطر، سقوط الأوراق، رفة طائر، حفيف أفعى في العشب، ولادة حيوان في دغل، دم الرغبة في عش ليلي.

في رواية (قلم النجار) للروائي الاسباني مانويل ريفاس من كتاب الرواية الحديثة وهي عن الحرب الاسبانية التي ماتزال حتى اليوم حية في الرواية الاسبانية الحديثة، يقوم رسام محكوم عليه بالموت في السجن مع مجموعة من السجناء الجمهوريين قاوموا دكتاتورية فرانكو في الحرب الأهلية 1936 برسم واجهة الكاتدرائية المقابلة للسجن لكنه وبدل أن يحفر صور القديسين والانبياء يقوم برسم أو حفر صور السجناء المحكومين بالموت بقلم نجار بعد أن يمنح وجوههم هالة قدسية: أُعدم هذا الرسام مع غيره لكنه أهدى قلمه الى حارس السجن ومنذ ذلك اليوم صار قلم النجار " يجلس" على أذن الحارس ويكلمه أكثر من كل الأحياء، ولا أحد يمر اليوم من أمام تلك الكاتدرائية من دون أن يرى صور السجناء ويتعرف على بعضهم بالاسماء رغم الطابع القدسي والمموه للوجوه لكن من النادر أن يتذكر هؤلاء اسماء القتلة: ذلك الرسام حوّل الواجهة الى شهادة في حياته كما في موته بدل أن تكون معماراً جميلا: معمار البراءة للكاتب والشاعر والفنان يترك أثراً يشبه الألم والخلق والعلامة والرمز عن انسان مر من هنا مرورا سريعا لكنه عاصف مثل ذلك الصوت الداخلي الغامض لمقدمة فيلم آلان رينيه عن فان غوغ وهو مقطع من رسالة غوغ الى شقيقه تيو يقول فيها:

ـ " يبدو لي انني مسافر عابر كتب له أن يلعب دوراً".

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا