عالم سري ومغلق:
خطاب الفقيه أمام الجمهور وفي السرير
حمزة الحسن
قد يكون السيد مناف شخصية متخيلة لم تولد
بعد في الواقع العراقي اذا كانت هذه
الأساطير الدائرة في العراق لها صلة
بالواقع واذا كان هو نفسه قد صعد الى
مستوى الواقع، لأن الواقع يموت كما البشر
حين يتحول الى مكان للتعذيب وليس للاقامة
الهادئة على الأرض، ومن هذا المنطلق ولد
السيد مناف داخل نص واذا اخذ شكل الشخص
الواقعي فلأن الخيال يَنتج كما الواقع
يَنتج.
ما هي حكاية السيد مناف؟ السيد مناف قرر
في لحظة عصيبة أو ربما ليست كذلك أن يكون
كما هو عليه وليس كما يراد له أن يكون، في
الشكل وفي السلوك وفي الزي، وفي الروحية،
وفي المكان، وحين وجد السيد مناف مثلا ان
عالمه الروحي يضيق( والرغبة تتسع) وغير
قادر على تلبية متطلباته الجسدية قرر في
ساعة الهام أن يغير الواقع، واقعه هو على
الصورة التي يريد وقرر خلع عمامة رجل
الدين والانتماء لحظات مسروقة الى عالمه
اللذائذي، وعالم اللذة مشروع مادام قرارا
شخصيا يجري في فضاء سري وخارج الفضاء
العمومي، ولكن مشكلة السيد مناف هي خروجه
على قواعد لعبة السرير التي تقتضي السرية
أولا وعدم الاقتراب من التكنولوجيا ثانيا
لأن هذه توثق وعالم السيد غير قابل
للتوثيق بل للعيش، هذه تؤرخ وهو يريد أن
يمارس ويستعيد، عالم كاميرة الخلوي معرض
للتهديد وعالمه هو مغلق، الكاميرة صورة
وعالم السيد متعة، والصورة العلنية تتقاطع
مع السيد مناف ومع الدور وهنا الخطورة.
واحدة من مشاكل السيد مناف انه اراد ان
يلعب لعبة تبديل الأدوار( الدور الوظيفي
للمهنة اذا كان دور رجل الدين مهنة) تحت
الكاميرة، أي انه أراد تثبيت الأسرار التي
لا تثبت بل تعاش لكي يمارس لذة الانبهار
بعد الفعل في وحدته وربما لكي يُدهش(
والدهشة متعة أيضا) من قدرته على تجسيد
المحظور في عالم عراقي جبل على هذا السلوك
ليس عن طبيعة بل عن قهر طويل، وليس السيد
مناف وحده من قام بلعبة تبديل الأدوار في
السر لأن هناك من يلعبها علناً وبصورة
خاصة في عالم السياسة وفي الأخلاق العام:
فليس غريبا مثلا أن يقوم سياسي لص بالدعوة
لمكافحة الفساد وأمام الكاميرة أيضا ولا
يبدو الأمر غريبا، أو أن يقوم مهتوك
أخلاقيا بالدعوة، وبأسلوب داعر أيضا، الى
المحافظة على الأخلاق العامة، أو يحارب
التاجر الغش علنا ويمارسه سراً. هذه
الادوار المنقلبة تمارس كل يوم حتى صار
هذا النوع من قلب الأدوار مقبولاً بسبب
التكرار.
حاولت متابعة عالم هذه الشخصية المبتلاة
بتهمة اللذائذية العلنية( وهي تهمة رجال
الدين للمعري) لكنها هنا معكوسة كما في كل
شيء في لحظتنا العاصفة، فلم أجد في فضيحة
السيد مناف، في المناخ العام السائد، ما
يغري بالفضيحة الا في قلب الدور، وقلب
الدور مهم لأن هناك بعض الأدوار طبيعية
ومنها دور الأم والأخت والأخ والأب وهناك
أدوار مهنية كالطبيب والكاتب والمهندس
والعامل وهناك أدوار عابرة دور زبون في
مقهى أو منبر أو مرقص أو رحلة أو دور
وظيفي كدور جندي في حرب أو قائد باخرة
والخ وهذه الأدوار قد تتغير عدا الادوار
الطبيعية لأن قلبها يقود الى قلب كامل
النظام الاجتماعي والاخلاقي: فلا يمكن
مثلا أن يكون الأخ زوجا للأخت ولا الأب
زوجا للبنت والخ الا في حالات منحرفة.
مشكلة السيد مناف هي في قلب الدور الوظيفي
( رجل الدين) والصورة النمطية المعروفة
عنه وهي صورة الوقار والرصانة والحكمة
والزي الشهير واللحية وأخطر ما جرى هو كسر
هذه الصورة النمطية كما لو أن الطبيب صار
قاتلاً، وهو أمر يحدث كثيرا، بل كثيرا
جدا، لكن خارج الفضاء العام، والرواية
العراقية مليئة بهذا الصنف من الشخصيات
النمطية التي تعيش حسب الدور ولا تخرج عن
السياق في حين ان الكائن الانساني متعدد
ومختلف وثري، ولكن هذه الامور شيء وعالمه
الداخلي شيء آخر مختلف، لأن الرصانة لا
تتناقض مع المتعة واللحية لا تتعارض مع
اللذة، لأن السيد مناف هو رجل تأكل أمه
الطعام وعنده حاجات عضوية وغرائز
واشتهاءات لكن نقطة القتل في فضيحة السيد
مناف لا توجد فيه وحده بل فينا أيضا.
هو ضحيتنا كما نحن ضحاياه، هو ضحية الدور
المظهري الذي منح القداسة( والقداسة لا
تتعارض مع الرغبة لأن الاسلام تصالح مع
اللذة وقام بتنظيم الرغبة) ونحن ضحايا
العبث والاستسلام والتخيل لهذا الدور
المقدس المفترض، لا هو تخلى عنه ولا نحن
فكرنا في أنه قد يلجأ الى العتمة لممارسة
أخطر الأدوار السرية، لأن عالم هؤلاء يخلق
كثيرا من صور السيد مناف، واذا كان هو قد
وقع ضحية التعاطي مع الكاميرة الخلوية في
تصوير لياليه، فإن غيره في أمكنة أخرى
وأديان أخرى ومذاهب أخرى وأحزاب أخرى
غطسوا في السرية، لذلك فإن هذا السيد
الوقور الذي بطش به جسده في حين أراد
اسكات حرائقة، فُضح وكالة عن كثيرين وكشفت
أسراره لكي تطمر الكثير من الأسرار ومن
بينها طبعا أسرار اشباه السيد مناف في
السياسة والدين والثقافة والتجارة وفي
غيرها.
لماذا كانت فضيحة السيد مناف عاتية ومدوية
وصاخبة مع ان الأمر لم يتجاوز غرفة في
فندق ونساء متعة أو جنس عابر أو زواج عرفي
والخ؟ ان مومسا هي داداريو كتبت كتابا عن
ليالي غرامها مع السيد برلسكوني رئيس
الوزراء الايطالي بعنوان( طلبات الرئيس)
شرحت فيه بالتفصيل والتشريح والآهات
والأوضاع والرغبات السرية لبرلسكوني
واشتياقاته السريرية ومع ذلك فإن
الاستفتاء الذي جاء بعد تلك الكتاب كشف عن
أمر مختلف هو زيادة شعبية الرجل بل ان
برلسكوني اخبر جاك شيراك في لقاء ان
غالبية نساء المجلة الجنسية التي عرضها
أمامه قد مارس معهن الجنس. قد يكون اختلاف
نظام القيم والنظرة الى الجنس والثقافة
السائدة وغيرها من العوامل وضعت شهوات
رئيس الوزراء السرية موضع تقدير واعجاب
وانا أعتقد ان دور برسلكوني في قيادة دولة
أهم وأخطر من دور السيد مناف الوعظي
الاخلاقي رغم أن الرجل لم يخل بالدور
الوظيفي ولكنه حاول اشباع الدور الغريزي
ومثل هذا الشخص هناك الملايين كل لحظة
يمارسون الجنس في كل الأماكن وكل
الكاميرات والهواتف والشاشات المباشرة على
الحاسوب، فلماذا صلب السيد مناف وكالة عن
كل هذا الحشد من اللذائذيين؟
مساحة غرام السيد مناف لم تخرج عن الفضاء
السري الخصوصي ولم يعبر على حيطان ولم
يخطف من شارع ولم يغتصب ولم يوهم أحدا
بحكاية غرام مزور، فلماذا وقع السيد مناف
في هذا الفخ؟ هناك خمس قداسات زائفة في
هذه القضية: قداسة رجل الدين، قداسة دوره،
قداسة جسده، قداسة لغته، قداسة "التنميط"
ووضع الرجل في صورة نمطية محنطة لا يجوز
عبورها. والجمهور المحلي مفجوع بخمسة
انتهاكات: انتهاك صورة الرجل وصورة الدور
والجسد واللغة والصورة النمطية. فكيف يمكن
لخطاب الفقيه عبر العصور الذي كافح ونافح
في الحفاظ على اللغة( وهو دور غير بريء
لأن ثبات اللغة يعني ثبات سلطته) من
التغيير ونجح في رفض كل تجديد لها، ظهر في
غرفة سرية يتكلم بلغة جسدية شبقية خارج
السياق والمتعارف والمقدس؟
المتعارف عليه أن خطاب الفقيه هو خطاب
تثبيت وتقديس واعادة ولكن الخطاب الذي ظهر
في افلام السيد مناف هو خطاب لذة وخلق
وشهوة. خطاب الفقيه التاريخي يضع الشهوة
كبضاعة اغواء واغراء ودنس، وفي خطاب
السرير ظهر الجسد العاري ينطق بلغة مفتوحة
وعارية، خطاب الفقيه التقليدي هو خطاب
سلطة والنص سلطة وخطاب السرير خطاب
متعة والمتعة تتناقض مع السلطة دائما لأن
المتعة حرية والسلطة قمع. السلطة حاضر فقط
والمتعة ماضي ولو كانت مستمرة لفقدت دورها
اللذائذي. خطاب الفقيه التاريخي خطاب
تخويف من الجسد لكن خطابه الذي ظهر في
السرير خطاب عبادة له.
قبل أكثر من قرن من الزمان كان عدد
العاهرات التابعات للفاتيكان بذريعة
الخاطئات وفي بيوت كنسية من اجل الرحمة
والتوبة والتربية أكثر من ثلاثين ألف
عاهرة وكنّ هدفا لزيارات القساوسة
والرهبان بل أن أحد البابوات(الحادي عشر،
ربما) وجد ميتا في فراش أحداهن والصليب
على صدره وقد يختلف الأمر في كون السلوك
الرهباني المسيحي يشجع على هذا النوع من
الافعال الأمر الذي يحرمه الأسلام لأن
الرهبنة ممنوعة فيه بل على العكس ان
الاسلام( وليس تقاليد الفقيه) لم يتكلم عن
الجنس بقذارة كما تفعل باقي الاديان وانما
ادار عملية الجنس باناقة وجمال وذوق
مراعيا الفطرة الانسانية، بمعنى ان
الاسلام انتصر للذة ولكن في اطار الشرع
العام والطبيعة والكرامة الانسانية وان
أول حالة صراع بين الأرض والسماء هي حالة
صراع جنسي مع قوم لوط وأول تفاوض في
التاريخ البشري كان بين السماء وبين تلك
الفئة المنحرفة وأرسل الله لهم نبيا لسماع
طلباتهم وتصحيح الأوضاع وانهاء التمرد.
جريمة السيد مناف في الخروج على الدور
الذي يخرج غيره عليه دائما ولكن باسلوب
غير اسلوب هذا السيد المصاب بلوثة
المزاوجة بين الكاميرة والعمامة
وهما قد يلتقيان في كل الأمكنة وكل
الأزمنة إلا في السرير لأن سرير السيد مثل
جسد السيد العاري مثل شبقه مثل لهاثه
وصراخه ولوعته وحرائقه ملكية عامة كالزي
الأسود والعمامة، فليس من المعقول لهذا
الرجل المبارك الشكل واللحية والدور
والوظيفة أن يخرج على العالم عاريا في
سرير والى جواره تطحن نساء من عالمنا
الأرضي وليس من عالم ماورائي، لكن من
متابعة دقيقة لليالي السيد وجدت ان الرجل
مشدود للكاميرة أكثر مما هو الى الجسد
الانثوي الذي يتلوى بين ذراعيه وعلى كتفه
وداخل لسانه، لأن شغله الشاغل ليست هذه
اللحظة بل الصورة، اللحظة زائلة والصورة
باقية ومن هنا وقع هذا المتيم المتمرد على
العمامة في غلطة المعلم: صحيح ان الصورة
باقية ولكنها تفضح، الصورة متعة ولكنها
سلاح، متعة هذا السيد ليست في الممارسة
ولكن في رؤيته كيف يمارس.
اعتقد ان هذا الرجل ضحية بصورة من الصور
ويستحق قراءة موقفه من خارج زوايانا
المعروفة: السيد مناف حرم من رؤية نفسه
كيف يمارس في حين يرى غيره عبر القنوات
كيف يمارسون وكيف يستمتعون وكيف يتكلمون،
بل الأدهى من ذلك أن عالم السيد مناف
وجماعته هو عالم غاطس في السرية وفي
الظلام ونسخته وسلوكه ومتعته ليست نادرة،
بل ليست نادرة بالمرة، واذا كان الرجل قد
هرب وأخفي، فلكي لا يتحول الاعتراف الى
كارثة حين يغرد هذا السيد بالاشباه
في التحقيق في لحظة صعبة جدا ومصيرية جدا.
مقارنة مع افلام الجنس المفتوحة اليوم،
يظهر سلوك هذه الشخصية في العملية محتشما
لأن السيد يبدو خارج الغرفة وليس بين
أحضان النساء ولا علاقة له بالموقف
ومشاعره متضاربة كما لو ان الحوار الذي
يدور ليس بينه وبين الجسد المتوجع على
صدره( وصدر السيد واسع جدا كصحراء من
الشهوات ولأول مرة يفح بلغة خارج لغة
الفقيه هو الذي يرفض عبر عصور تجديد اللغة
ويربط التجديد بالمدنس) بل هناك حوار يدور
بينه وبين عالم مختلف هو عالم الدور
وقوانينه، فليس سهلا أن يتهتك السيد على
هذا النحو وخاصة بحضور زائر آخر هو
الكاميرة، وقد يكون الأمر عاديا بلا هذا
الحضور المرعب والجميل والغامض.
تذكر باحثة ايرانية في كتاب( المتعة) هي
الدكتورة شهلا استاذة علم الاجتماع في
الولايات المتحدة وحفيدة المرجع اية الله
الحائري واحد من أكبر مراجع الدين في
ايران انها أجرت مقابلات مع رجال دين وجدت
ان بعضهم يمارس الجنس مع خمس وعشرين امرأة
على مدى طويل وفي وقت واحد وفي بيوت
متعددة ومنهن فتيات شابات ثيب من مناطق
ايرانية ارستقراطية كتجريش الحي البرجوازي
على سفح جبال البزر في طهران وقد تمكنت
الدكتورة شهلا من التوغل في عالم رجال
الدين بصعوبة ومتاعب كثيرة ولكنها استطاعت
كشف عالمهم الغامض والسري والمغلق بسبب
كونها حفيدة لمرجع نافذ ومعروف ـ وحين كنت
في ايران عام 1989 كان بعض هؤلاء يأتون
الى صديق مطرود من العراق مع العائلة لديه
معصرة خمر منزلية سرية ويطلبون منه حصتهم
اليومية بعد خروجهم من المدارس الدينية
بعد الظهر.
هؤلاء يمارسون عالمهم المغلق والغامض(
أقرب الى عالم الرواية) بلا توثيق وهذا هو
مصدر ثقة السيد مناف بنفسه لكن الغلطة في
خروجه على الدور وخروجه على تقليد يمارسه
هؤلاء، سراً. فلماذا تكون فضيحة هذا السيد
السرية في مكان مغلق على الفضاء العمومي
تحمل كل هذه الضجة في حين لا تكون فضيحة
غيره بالمستوى نفسه في مدن محرومة من
المرح والضحك والأمل وفوقها منائر وتحتها
معاصر مثل كل مدن الشرق المشوهة؟ لم أجد
على المستوى الرمزي والثقافي والفكري في
كل تلك الصور المهربة للسيد مناف أية صورة
حقيقية له بل على العكس ان مصدر الصدمة
العامة، صدمة الجمهور، هو في اكتشاف
الجمهور أوهامه الكبرى، مصورةً، تتأوه على
سرير طويل ينام فيه التاريخ مع المقدس
واللغة مع المومسات وخطاب سلطته التقليدي
مع الجسد العاري، بحراسة الخلوي الذي
جعلنا نكتشف أن الفقيه مستعد لتغيير قواعد
اللغة عندما يتعلق الأمر بتغيير قواعد
الجسد وهو أمر كان يخفيه ويرفضه عبر
التاريخ بحجة المقدس.
29/6/2010