بين البعث العراقي والقاعدة.. حروب صغيرة !
علاء اللامي
أحدثَ التسجيل الصوتي المنسوب لزعيم أحد جناحي البعث العراقي عزة
إبراهيم الدوري، والذي بُثَّ بُعيد مجزرة الأعظمية التي ارتكبها
مسلحو تنظيم القاعدة، وأعلن خلاله الدوري أن حزبه أصبح المرجعية
والحاضنة الفعلية لجميع فصائل المقاومة الجهادية بما فيها الأحزاب
الكردية المعارضة، أحدث ردود أفعال مختلفة وحادّة من مختلف الأطراف
السياسية والجماعات المسلحة وخصوصا من تنظيم القاعدة وجبهة الجهاد
والتغيير " جامع". وقد تحولت ردود الأفعال تلك إلى سجال عنيف وأقرب
إلى حرب إعلامية صغيرة بين التنظيم والحزب.إن أهمية ما حدث لا تكمن
في ردود الأفعال الرافضة لمزاعم الدوري في خطابه المسجل بحد ذاتها
بل في المعلومات والمواقف التي كُشِف عنها خلال السجال
والاستنتاجات التي يمكن التوصل إليها بتحليلها.
جبهة الجهاد والتغيير "جامع" أصدرت بيانا نفت واستنكرت ما أعلنه
الدوري، واعتبرته مجرد ( تخرصات تافهة لا تستحق الرد.. وأنها لا
تعدو أن تكون حديث خرافة ) وأضافت الجبهة في بيانها (
إن مقاومتنا للاحتلال وجهادنا له لم يكن يسير ضمن خطى حزب الدوري
ولا في
حدود استراتيجيته إنما أصله نابع من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة
رسوله"صلى الله عليه وسلم" وسيرة السلف الصالح في جهادهم من أجل
دينهم ودفاعهم
عن العرض والأرض.
و إن أمر المقاومة في العراق لم يعد خافيا على أحد من أن بداياته
الأولى إنما اشتعل أوراها بفعل بطولات الشباب المسلم ممن لم يكن له
حظ عند
الدوري أيام حكم حزبه ولا قبول.. )
وقالت الجبهة أيضا إن الاحتلال نفسه يعرف أن هذه الادعاءات – التي
وردت في خطاب الدوري المسجل - ليست بصحيحة بل هي محض افتراء. وقد
ردَّ البعث " جناح الدوري " على هذا البيان ببيان مضاد قال فيه إن
قادة حركة " جامع" ( تطاولوا على راية من رايات الجهاد هو المعتز
بالله عزة الدوري ) مسجلا أن العمليات المسلحة التي قام بها الحزب
أكثر من العمليات التي قامت بها الجبهة، واستغرق الرد في كلام
أيديولوجي طويل وعريض حول علاقة البعث بالإسلام عائدا إلى ما سُمي
بالحملة الإيمانية ( قرارات حكومية لأسلمة مظاهر اجتماعية معينة
وممارسات شائعة في الحياة اليومية ) التي أطلقها الرئيس المعدوم
صدام حسين في سنوات حكمه الأخيرة. أما تنظيم القاعدة فقد ردَّ على
زعيم البعث برسالة مفتوحة على لسان أحد قياديه هو عبد الله
المجاهد و جاء الرد الذي حمل عنوانا يقول (الخائبون حين يزعمون
قيادة المقاومة تعليق على رسالة المدعو عزت إبراهيم الأخيرة ) أكثر
حدة وتشنجا في رفضه لمزاعم الدوري، تكررت فيه بعض المعطيات التي
وردت في بيان "جامع"، كما وردت فيه معلومة يُكشف عنها للمرة الأولى
ومفادها أن الدوري الذي فرَّ من مجابهة قوات الاحتلال في الجبهة
الشمالية ومقرها قيادتها كركوك دون أن تطلق القوات العسكرية الضخمة
التي كانت تحت إمرته، والمؤلفة من الفيلقين الأول والخامس رصاصة
واحدة ضد الغزاة أو ضد حلفائهم في المليشيات الكردية "البيشمركة "
، أنه وقع بعد ذلك في قبضة مسلحي تنظيم القاعدة في منطقة "بيجي"
وأنهم جردوه من السلاح الشخصي هو وعناصر حمايته وأسمعوه كلاما
قاسيا ثم ( أطلقوا سراحه بعد إن أدركتهم الشفقة به ... وقالوا لهم
لستم أهلا لأن تركبوا هذه المراكب وتحملوا
هذه الأسلحة فقد فررتم من الزحف وخنتم الأمانة فاذهبوا إلى أهلكم
مشيا على
الأقدام!!
) وليس ثمة سبب يدعو إلى تكذيب هذه المعلومة، خصوصا إذا أخذت في
سياق الأحداث المأساوية والمعلومات المؤَكَدة حول الأداء بالغ
السوء للدوري وزملائه خلال الحرب وتحديدا في المراحل الأخيرة من
الغزو وسقوط نظام حكم البعث.
غير أن خروج السجالات والخلافات الحادة إلى العلن، بين البعث
والقاعدة وجماعات مسلحة أخرى، وبهذا المستوى من الحدة والعدائية،
يؤشر إلى أن ما كان يوصف بأزمة العمل المسلح بين الجماعات المسلحة
بلغ نقطة اللارجعة، وأنه ربما يكون في طريقه إلى التصاعد وصولا إلى
بلوغ نهاية مرحلة صاخبة ومعقدة. إن الخلافات بين البعث والقاعدة
ليست جديدة، فقد حدثت مرات عديدة، رغم أن البعث حرص على عدم
استفزاز القاعدة أو معاداتها،وسكت طويلا على الجرائم والعمليات
المسلحة الفظيعة التي قامت بها مستهدفة المدنيين العراقيين، و رغم
أنه أعلن ذات مرة في بيان علني أن مسلحي التنظيم هاجموا مجموعة من
البعثيين كانوا في طريقهم لضرب مواقع لقوات الاحتلال وقتلوهم. غير
أن الإدعاء الأخير للدوري المعروف بميوله النفسية المعقدة فجَّر
كما يبدو الكثير من الدمامل التي حكمت العلاقة بين الطرفين.
وبقدر ما تبرئ هذه الخلافات والبيانات الحادة ساحة حزب الدوري من
تهمة التحالف والتنسيق مع تنظيم القاعدة وامتداده السياسي " دولة
العراق الإسلامية"، فإنها كشفته وبشكل سيء أمام أنصاره ومؤيديه.
صحيح أن حكومة المحاصصة الطائفية برئاسة المالكي دأبت على توجيه
اتهامات كهذه إلى الجناح الآخر من البعث و الذي يقوده الضابط محمد
يونس الأحمد، وافتعلت أزمة دبلوماسية كبرى مع الحكومة السورية جراء
ذلك، وليس إلى جناح الدوري، ولكن ذلك لا يقلل من حدة عداء هذه
الحكومة لهذا الجناح . ليس من المستبعد تماما أن يكون البعث " جناح
الدوري" قد أقام ائتلافا سريا أو تحالف أمر واقع مع تنظيم القاعدة
في مرحلة ما، ويمكن التذكير هنا بواقعة اكتشاف أحد المخابئ السرية
للدوري من قبل القوات الأمنية الحكومية مؤخرا على مقربة من مخابئ
كان يقيم فيها مسلحو القاعدة في منطقة نفوذهم في جبال "حمرين"،
ولكنه – البعث- اليوم يحاول جاهدا الاستفادة من حالة التراجع
والانكفاء بفعل الضربات القوية التي تلقاها التنظيم من القوات
الأمنية، وهو يبذل جهوده في الانتشار والسيطرة الميدانية في مناطق
نفوذ التنظيم، غير أن من الواضح أن العمليات المسلحة التي حدثت
مؤخرا والتي تحمل بصمات التنظيم التكفيري المذكور وذهب ضحيتها
المئات من المدنيين العراقيين تؤكد أن المحاولات البعثية لن تجدي
نفعا ولن تحقق أهدافها.
على الجانب الآخر يقف حزب البعث الآخر " جناح الأحمد " موقفا أكثر
التباسا: فهو على ضعف أدائه العسكري الميداني واعتدال أطروحاته
السياسية ومنها دعواته لمراجعة تجربة حكم البعث واستعداده للاعتذار
للشعب العراقي عن الممارسات السيئة لذلك الحكم يحوز – وعلى عكس
المتوقع - حصة الأسد من غضب وعداء حكم المحاصصة الطائفية. لقد ركز
المالكي وحكومته بعد التفجيرات النوعية والدموية التي دمرت عددا من
الوزارات ومقار الهيئات الحكومية الكبرى على اتهام القاعدة والبعث،
وتحديدا جناح الأحمد، وحدثت الأزمة الكبيرة المعروفة والتي سلفت
الإشارة لها مع الحكومة السورية، ولكنه فشل في تقديم أدلة حاسمة
باستثناء عرض شخص معتقل أو أكثر، نسبَ نفسه إلى الجناح المذكور
واعترف بتورطه في تلك العمليات النوعية وبعدها دخلت العلاقة بين
الحكوميتين العراقية والسورية في حالة توتر وجمود مستمرين لم تؤثر
فيها تصريحات المالكي التلطيفية الأخيرة عن ( القدر التاريخي
المشترك الذي يربط العراق بسوريا ماضيا وحاضرا ومستقبلا ) و يمكن
هنا أن نسجل أن البعث " جناح الأحمد " كان قد أعلن على لسان أحد
قياديه وهو الضابط غزوان الكبيسي ذات مرة على إحدى الفضائيات "قناة
العربية " أن حزبه لا يمانع في التحالف مع القاعدة إذا كان
المستهدف هو كما قال ( الاحتلالين الأميركي والإيراني والحكومة
العميلة ) ولكن هذا التصريح لوحده لا يكفي ليكون دليلا دامغا على
اتهامات المالكي الذي يبدو أنه راح ضحية مبالغات مستشاريه وأركان
جهازيه الأمني والإعلامي بدليل أنه، وبعد أشهر قليلة، كفَّ عن
ترديد هذه الاتهامات و طوى ملف التفجيرات النوعية تماما ولم يعدد
يكررها حتى في حالة حدوث تفجيرات كبيرة.
وعلى الرغم من محدودية تأثير هذه السجالات والخلافات الحادة بين
بعث الدوري والقاعدة على الأوضاع السياسية والأمنية العامة في
العراق، ولكنها، ومع اقتراب استحقاق انسحاب القسم الأكبر من قوات
الاحتلال، ومع تفاقم الصراعات السياسية بين أحزاب العملية السياسية
الأميركية، ستضيف عاملَ اضطرابٍ آخر، وتفتح جبهة جديدة للصراعات
بين الجماعات المسلحة، و قد تنتقل – تلك الصراعات - إلى الميدان
المسلح، مما يحقق للاحتلال مشروعه في تقريب العراق أكثر فأكثر من
حافة "الصوملة" والانتحار الذاتي الشامل ليكون بمقدور الاحتلال،
وبمساعدة واعية أو غير واعية ، مقصودة أو غير مقصودة من هذه القوى
مجتمعة، فرض شروطه بسهولة أكثر وتحويل العراق إلى محمية نفطية
أخرى تدور في الفلك الأميركي والغربي إلى جوار محميات الخليج
والجزيرة العربية.
الأخبار اللبنانية / عدد 20/8/2010