هشام غصيب
مقدمــة
لماذا البدء بماركس
تحديداًً؟ أولاً بالنظر إلى ارتباط هذه
الفلسفة الوثيق بهموم الناس العاديين، بل
وإصرارها على أن الفلسفة في البداية
والنهاية تنبع من هذه الهموم وترتد عليها،
وأنها ليست شأنا يخص بعض النخب فقط، وأنه
ليس هناك حاجز مطلق بين الخاصة
والعامة؛وثانيا لاعتقادي (الذي بررته في
كتابي، "نقد العقل الجدلي") ،بأن ماركس
يشكل ملتقى فلسفيا، تلتقي فيه جميع
التيارات الفلسفية السابقة وتلتحم فيه
جدليا، وتنبع منه جميع التيارات اللاحقة.
إنه إذا مفتاح السابق واللاحق.
وسأتبع في شرح فلسفة ماركس
إلى حد كبير طريقة العرض التي قدمها
الفيلسوف الماركسي المحدث، بيرتل أولمان،
والتي يتفادى فيها الفذلكات الفلسفية
المعتادة ويبسط الأمر من دون الإخلال
بدقته وعمقه. لكني سأخضع هذا الشرح إلى
نقد صارم وأحول مجراه تباعاً.
وفق أولمان، تنطلق فلسفة
ماركس من ملاحظة يومية في العصر الحديث من
الصعب إغفالها، وهي أن هناك عدداً كبيراً
من الناس يعانون من الفقر المدقع والفاقة،
وأن هناك، بالمقابل، عدداً ملموساً من
الناس يملكون الثروات الضخمة. والسؤال
الذي انطلق منه ماركس (وغيره)هو: لماذا
هذا التفاوت؟ وكيف يولد المجتمع الحديث
(ما يسمى المجتمع الرأسمالي) الفقر العميم
من جهة والغنى الفاحش من جهة أخرى؟ ما
الذي يجعل من العلائق الاقتصادية
والاجتماعية السائدة مولداً لهذا التفاوت؟
وكيف انبثق هذا النظام الاجتماعي
الاقتصادي من سابقه ( ما يسمى النظام
الإقطاعي)، وما مآله؟
ويرى أولمان أن جوهر
النظام الحديث الرأسمالي يكمن ( خلف كل
المظاهر المعقدة والمتنوعة) في الصراع
القائم بين طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين:
الرأسماليون، الذين يملكون الموارد
الإنتاجية في المجتمع، والعمال
(البروليتاريا)، الذين يجب أن يعملوا من
أجل أن يعيشوا ويستمروا في البقاء. وليست
الماركسية، في نظر أولمان، سوى تحليل
ماركس للعلائق المعقدة والمتطورة بين
هاتين الطبقتين الاجتماعيتين الرئيسيتين.
أصول الماركسية
يتكون هذا التحليل لماركس،
وفق أولمان، من ثلاث نظريات رئيسية: نظرية
الاغتراب، ونظرية العمل للقيمة، والتصور
المادي للتاريخ. لكن هذه النظريات تكتسب
معناها الحقيقي ووحدتها الداخلية وترابطها
العضوي من كونها مكونات لهذا التحليل. أي
ينبغي إبقاء هذا التحليل الطبقي للمجتمع
الرأسمالي ماثلاً للعيان عند بحث هذه
النظريات المتشعبة، وإلا حاد عن أهدافه
ومعناه. بل حتى تصور ماركس للاشتراكية
ينبثق من دراسته الرأسمالية. فالاشتراكية
وفق ماركس كامنه في الرأسمالية، بمعنى
أنها القوة غير المتحققة الكامنة في
الرأسمالية، حيث إن الأخيرة تولد الشروط
الموضوعية من ثروات وموارد مادية ومعنوية
لتحقيقها، أي لتحقيق مجتمع عادل
وديموقراطي يوفر لكل فرد فرصة تطوير
إنسانيته وتحقيق مواهبه وقدراته بحرية .
ومع أن أفكار الاشتراكية
تعود إلى غابر الأزمنة، إلا أن الماركسية
تعود في جذورها الفكرية إلى الفلسفة
الألمانية الكلاسيكية وعلم الاقتصاد
السياسي الإنجليزي والاشتراكية الطوباوية
الفرنسية، كما أكد لينين مراراً وتكرارا.
فمن هيغل، الفيلسوف الألماني، تعلم ماركس
نهجا جديداً في التفكير في العالم بوصفه
سيرورة معقدة ومركبة. وهو
ما أسماه ماركس، وهيغل من قبله، الجدل أو
الديالكتيك. ومن أدام سميث وديفد ريكاردو
الإنجليزيين حصل ماركس على التقريب الأول
لنظريته في القيمة. أما الاشتراكيان
الفرنسيان، شارل فورييه وسان سيمون، فقد
زودا ماركس بوصفة أولى للمستقبل المشرق
الممكن الذي يتخطى الرأسمالية. هذه هي
المكونات الرئيسية التي شكلت الماركسية في
ضوء الملاحظة المباشرة أن الثورة
الصناعية أنتجت من الفقر أضعاف ما أنتجته
من الثروة.
الفلسفة الماركسية
لعل أولمان يغفل ملاحظة
ثانية انطلق منها ماركس ولا تقل عن الأولى
في تحديد فلسفته، وهي أن الرأسمالية تولد
الفقر والثراء بوصفهما نقيضين ضروريين
لبعضهما، أي بوصفهما شرطين ضروريين
لبعضهما. فهما لا يتولدان بمعزل عن
بعضهما، وإنما بالتلازم الضروري بينهما.
لذلك فهما في الرأسمالية نقيضان متناحران
دائما التناحر، يتصارعان باستمرار. ولحظة
الذروة في هذا الصراع هي الثورة
الاجتماعية، أي تحرك الفقراء سياسيا من
أجل تغيير النظام الرأسمالي وتخطيه.
بذلك، فإن ماركس لم يكتف بالسعي إلى تفسير
كيفية توليد الرأسمالية الفقر العميم
والثراء الفاحش، وإنما سعى أيضا إلى تفسير
كيف تولد الرأسمالية الثورة الاجتماعية،
كيف ينمو نقيضها في أحشائها، كيف يتمرد
الفقر العميم على النظام الذي أنتجه في
المقام الأول، أي آليات الصراع الطبقي في
المجتمع الرأسمالي ومآله. ومن ذلك نبع
قول ماركس في إحدى رسائله بأن أهم اكتشاف
أحرزه هو أن المآل المنطقي للصراع الطبقي
في الرأسمالية هو دكتاتورية البرولتتاريا،
أي حكم الكادحين ودولتهم، الأداة الرئيسية
لتغيير الرأسمالية صوب الاشتراكية
فالشيوعية. وعليه، فإن فلسفة ماركس ليست
في المقام الأول فلسفة البؤس، وإنما هي
فلسفة ثورة البؤساء، فلسفة الثورة. وهذا
ما أدركه الفيلسوف المجرى الكبير، جورجي
لوكاتش، في كتابيه المبكرين، "التاريخ
والوعي الطبقي"(1923) و"لينين" (1924).
وهذا يفسر الجوهر المادي الجدلي لمنهج
ماركس في التحليل والتنظر، ولماذا عني
ماركس بوضع نظرية في الاغتراب والاستغلال
(نظرية القيمة) في الرأسمالية. فالاغتراب
والاستغلال، لا الفقر في حدّ ذاته، هما
محركا الصراع الطبقي، ومن ثم الثورة
الاجتماعية. إن بيرتل أولمان يؤكد أهمية
هذه النظرية وعلاقتها بظاهرة الفقر في
الرأسمالية، ولكن من دون أن يوضح أرضيتها
وضرورتها، بل وحتمتيها، التي لا تتبدى إلا
في ضوء الملاحظة الثانية المتعلقة بضرورة
الثورة الاجتماعية في الرأسمالية.
لقد عاش ماركس عصر ثورات
سياسية وثقافية واقتصادية عارمة. ولاحظ
ارتباط هذه الثورات بنشوء الرأسمالية
وتطورها. بل لاحظ أنه في الوقت الذي خلت
فيه العصور السابقة، أو كادت، من الثورات،
وإن شهدت بعض الانتفاضات الدموية
العبثية، فإن تاريخ الرأسمالية يكتظ
بالثورات المتنوعة. لا بد إذاً أن يكون
هناك شيء مميز في طبيعة الرأسمالية يجعلها
تولد الثورات الاجتماعية. لكن ماركس أدرك
أيضا أنه، لئن كانت الثورات ما قبل 1848
تسعى إلى تعزيز الرأسمالية وإزالة
معوقاتها، فإن ثورات عصره وما بعده ستهدف
إلى تقويض أركان الرأسمالية ووأدها
وقبرها. هذا ما اعتقده ماركــس. هل تؤكد
وقائع تاريخ العالم منذ وفاة ماركس (1883)
هذا الاعتقاد؟ إنها قضية جدالية تحتاج إلى
كثير من النقاش. فإذا قسنا الثورة الروسية
(1917) والثورة الصينية (1949) وثورة طلبة
فرنسا (1968) بنتائجها، لربما خلصنا إلى
الرأي أن الثورات الاجتماعية ما بعد 1848
كانت آليات أساسية لتجديد الرأسمالية
وتعزيزها وتوسيعها. فهي مسؤولة عن إطلاق
ثلاثة من مردة الرأسمالية المعاصرة :
الصين، روسيا، فرنسا.
لقد أدرك ماركس إذا الطابع
الثوري لعصره، وللرأسمالية بصورة عامة،
وأراد إكمال هذه المسيرة الثورية وتحقيقها
بالفعل بوضع مشروعه الماركسي الثوري،
المشروع الثوري لحفاري قبر الرأسمالية،
الطبقة العاملة. إن الماركسية إذا ليست
مجرد فلسفة، ولا مجرد علم، وإنما هي مشروع
تاريخي ثوري يعبر نظريا عن الوعي الكامن
للطبقة العاملة الصناعية الحديثة، وينطوي
على فلسفة، ويستلزم منهجا علميا نقديا
للكشف عن الواقع التاريخي في حركته، ونقده
من منظور حتمية زواله، وتسخيره مرشدا"
للفعل التاريخي الثوري. فكون الماركسية
فلسفة الثورة الحديثة، أي مشروع الطبقة
العاملة الصناعية الثوري، يشكل جوهرها،
لبها. وهذا ما لا يدركه أولمان تماماً
لتركيزه على الفقر في حد ذاته وعجزه عن
الربط ما بين ملاحظات ماركس التاريخية
الاجتماعية ونظريات ماركس الرئيسية
(الاغتراب، الاستغلال، المادية الجدلية).
وبالتحديد، فإن الطابع
الجدلي الديالكتيكي لفلسفة ماركس ينبع من
كونها فلسفة الثورة الحديثة. فالجدل هو
جبر الثورة، كما وصفه الروسي هيرتزن. إنه
منطق تطور النظم. وأساسه هو كون نظام ما
كلا واحداً، أي كونه واحداً متعدد الأجزاء
المترابطة معاً من حيث الوجود
(أنطولوجيا). فهو واحد بصفته بنية أو
شبكة من العلائق، لكنه متعدد بصفته مكونا
من أجزاء محددة الصفات والمعالم. وهذا
التوتر بين كونه واحداً ومتعدداً هو أساس
حركته وتطورة. ولا يفهم نظام ما، سواء
أكان طبيعيا أم اجتماعيا، إلا بدلالة
روابطه الوجودية( الأنطولوجية). فهي روابط
ضرورية، بمعنى أن الجزء ينتفي بانتفاء
الأجزاء التي يرتبط بها. كما إن الأجزاء
والنظم نفسها تولد نقائضها وتتحول إليها
عبر هذه العلائق. فبذور فناء النظم (أي
زوالها، أي تحولها) تكمن فيها. إن النظم
تاريخية في جوهرها. وأساس المنهج الجدلي
هو تدبر النظم في حركتها وتاريخيتها، ومن
منظور زوالها وتخطيها، لا من منظور
ديمومتها. وهذا ما تخفق في فعله المنهجيات
التحليلية السكونية السائدة في الفكر
البرجوازي السائد. فهي تعالج النظم من
منظور ديمومة اللحظة الراهنة، أي سكونيا.
كما إنها لا تعالج نظاماً ما بوصفه عضوية
حية تتحرك بفعل تناقضاتها الداخلية، وإنما
إما بوصفه بناء ثابتا أزليا وإما بوصفه
كومة من الجزئيات المترابطة معاً عرضيا
وسطحيا. ولئن نشأت فكرة المنهج الجدلي في
فلسفة هيغل، وفي سياق حل مشكلات فلسفية
معينة، فقد حولها ماركس إلى قاعدة وأساس
لعلم جديد هو المادية التاريخية. أي إنه
جسدها منهجاً علميا نقديا لفهم التاريخ
ماضيا وحاضراً وآفاقاً مستقبلية، يشكل
مرشداً نظريا معرفيا للفعل التاريخي
الهادف إلى تحقيق مشروعه الثوري. وقد تجسد
هذا المنهج الماركسي المتطور بجلاء في
كتاب ماركس الشهير، "الرأسمال". ذلك أن
ماركس عالج النظام الرأسمالي بوصفه كلا
ومن منظور تاريخيته وحتمية زواله وإمكانات
التحول الكامنة فيه(أي من منظور
الاشتراكية). ولا نريد هنا أن نبين تماماً
كيف تجسد المنهج الجدلي في "الرأسمال".
وقد تتاح لنا الفرصة لفعل ذلك في دراسات
لاحقة. لكننا نود أن نؤكد هنا أن المنهج
الجدلي هو ليس مجرد سلسلة من القواعد أو
الخطوات الميكانيكية الثابتة، كما قد توحي
بعض أقوال إنغلز، وإنما هو عضوية حية تنمو
وتتطور وتتجسد في علم وممارسة. ولعل أبلغ
تعبير عنه هو " الرأسمال" بمجلداته
الأربعة، والذي يضم بين دفتيه قاعدة علم
التاريخ ( المادية التاريخية)، والممارسة
الثورية للينين، الثوري الأعظم في تاريخ
البشرية.
والحق أن مفهوم الثورة لا
يتحدد معناه ومغزاه الحقيقيان ولا يأخذ
مداه الفعلي ولا يكتسب عقلانيته التاريخية
إلا في الماركسية وعبرها بفضل منهجها
الجدلي. ويحدد ماركس سيرورة الثورات جدليا
على النحو الآتي(انظر مقدمة كتابة"إسهام
صوب نقد الاقتصاد السياسي"، الذي نشره عام
1859): إن النظام المادي، سواء أكان
طبيعيا أم اجتماعيا، يولد، بفضل علاقاته
الداخلية الضرورية وتفاعلاته الخارجية،
عناصر وقوى في داخله تحمل في أحشائها بذور
نظام جديد أعمق وأوسع وأرقى من النظام
القائم، بمعنى أن الحركة الداخلية للنظام
القائم وتفاعلاته الخارجية تولد نقيضه في
أحشائه. وينمو هذا الجنين وينضج إذ يأخذ
النظام القديم مداه. ويزداد التوتر بينهما
في داخل النظام القائم حتى يصل حداً لا
يعود عنده النظام القائم قادراً على
احتواء القوى،التي تحمل بذور النظام
الجديد. عند ذاك، تفجر هذه القوى النظام
القديم من الداخل وتقوض أركانه مشيدة
النظام الجديد على أنقاضه ومن الدمج
الجدلي بين عناصره. هكذا تتطور النظم
المادية وهكذا تحدث الثورات في شتى
المجالات. بذلك يكون ماركس قد كشف النقاب
عن جدل الثورات ومنطقها وجبرها ومغزاها
التاريخي.
إن مفتاح المنهج الجدلي هو
الربط الضروري. فهو يسعى إلى اكتشاف
الروابط الضرورية التي تربط الأشياء
والظاهرات. إذ تبدو الظاهرات مستقلة عن
بعضها ومجزأة، تبدو كومة من البيانات
والانطباعات. ويقف بعض الفلاسفة
(الإمبريقيون،التجريبيون) عند هذا الحد،
فيعتبرون هذه الكومة الحقيقة الموضوعية
الوحيدة، ويعتبرون كل ما عداها ذاتيا، لا
موضوعيا. أما أصحاب المنهج الجدلي،
فيدركون أن هذه الكومة متغيرة، الأمر الذي
يشير إلى أن المرئي/ الظاهر يتحول
باستمرار إلى غير مرئي/ باطن والعكس
بالعكس. فليس هناك جدران مطلقة بين الباطن
والظاهر، وإنما تربطهما علاقة تحول تجعل
من الممكن معرفة الباطن الذي يولد
الظاهر. كما يدركون أن الظاهرات لا تفهم
ولا تتوحد بذاتها وإنما عبر الباطن الذي
يولدها. إنها باستمرار تشير إلى الباطن
الذي يولدها ويتحول إلى ظاهر، حتى وإن كان
الظاهر هو نقيض الباطن، كما هو الحال مع
النظام الرأسمالي. فالمساواة الرأسمالية
هي شكل ظهور الاستغلال الرأسمالي. فالباطن
والظاهر يشكلان كلا جدليا واحداً تنخره
التناقضات. إن المنهج الجدلي يدرك اذاً أن
الظاهر ليس ذريا، أي لا يتشكل من بيانات
وانطباعات معزولة عن بعضها، وأنه يفترض
وجود باطن ينتجه ويتحول إليه، وأن
الظاهرات ترتبط معاً ضروريا عبر الباطن
نفسه، وأن الباطن يمكن أن يعرف عبر الظاهر
وبتحوله إلى ظاهر.ويمكن القول إن التاريخ
هو سيرورة ظهور الباطن. وقد سبق أن عبر
الفيلسوف الألماني، هيغل، عن ذلك باعتبار
التاريخ سيرورة تحول الجوهر إلى ذات. إن
مفهوم الجدل إذاً يفترض أن هناك أعماقا
وجودية تولد الظاهر، وأن هذه الأعماق
تاريخية في صميمها، أي تتحول باستمرار إلى
ظاهر، ومن ثم فهي قابلة لأن تعزف عبر
التاريخ، تاريخ ظهورها.
ويتبدى هذا المنهج الجدلي
بجلاء في تاريخ الفيزياء وفي علم
البيولوجيا. لكنه يتجلى أكثر ما يتجلى في
كتابات ماركس الاقتصادية، وفي مقدمتها
كتاب "الرأسمال" ومخطوطاته الاقتصادية
للأعوام 1857-.1863وهي نصوص ثرة زاخرة
بالأفكار والتحليلات، التي ما زالت تنتظر
من ينقب عنها ويستخرجها ويستثمرها، برغم
حشد الدراسات العميقة التي سبق أن أجريـت
عليها.
ماذا نستخلص من هذه
النصوص؟ الكثير بالطبع. لكني سأوجز هنا
بعض النقاط الجوهرية التي تشكل عماد فلسفة
ماركس، تاركا" نقاطا أخرى وتفصيلات مهمة
لدراسات لاحقة:
1-
إن فلسفة ماركس فلسفة
نقدية مطلقة في جوهرها. وينبع هذا الجوهر
الفكري المنهجي من ثوريتها المطلقة. فهي
لا تهادن الكائن، ولا تكرسه، وإنما تعالجه
وتتعامل معه من منظور فنائه الحتمي
وإمكاناته الكامنة. ووظيفة النقد هي إبراز
الكوامن وتحديد موقع الناقد في سيرورة
تحقيق هذه الكوامن.
2-
إن فلسفة ماركس كونية
شاملة في صميمها. فهي لا تعنى بالأجزاء
بمعزل عن الكلات. وعلى سبيل المثال، فإنها
تنظر إلى الرأسمالية بوصفها كلا (نظاماً،
عضوية) تاريخيا واحدا مهما بلغت درجة
تعقيده، لا بوصفها عمليات وآليات مستقلة
عن بعضها من حيث الجوهــر ولاتاريخية.
وفي ضوء ما بلغه النظام الرأسمالي من
تعقيد، حيث إنه يشكل شبكة معقدة من البنى
والقوى السياسية والاقتصادية والثقافية
المتصارعة والمتفاعلة معاً، فإننا نعد سمة
الكونية والشمولية للماركسية سمة مدهشة
بحق. فكيف تجرؤ منظومة فكرية على السعي
إلى استيعاب نظام معقد كالنظام الرأسمالي
في شموله وكليته؟ بل، هل يجوز النظر إليه
على أنه نظام متماسك واحد موحد؟ أم إنه
مجرد فيض متلاطم من العناصر والأجزاء؟ هذا
بالتأكيد ما يبدو على السطح. لكن
الماركسية لا تقف عند السطح، وإنما تنظر
إلى السطح، الذي يبدو فيضا من العناصر
الاعتباطية العرضية غير المترابطة، على
أنه منتج لباطن يحكمه منطق متنام عضويا
عبر عنه ماركس بدقة في كتابه " الرأسمال".
قد يجد الكثيرون من الصعب حقا الربط بين
الأحداث والظاهرات في عالم اليوم، ويفضلون
من ثم التعامل مع كل عنصر على حدة
والتركيز على قضية بعينها. وقد انعكس هذا
الموقف الذري من الوجود الاجتماعي فلسفيا
في تيار ما بعد الحداثة، الذي تمرد على
السرديات الكبرى برمتنها وأكد الجزء على
حساب الكل.لكن هذا الموقف يتكسر باستمرار
على صخرتين: صخرة التاريخ وصخرة الاقتصاد
العالمي.وعلى هاتين الصخرتين قامت فلسفة
ماركس. فالتاريخ يكشف عن باطن يحكمه منطق
جدلي متنام. وهو يفعل ذلك لأنه سيرورة
ظهور الباطن، أي تحوله إلى ظاهر.
والاقتصاد العالمي أضحى واقعا يمس حياة كل
إنسان وكل دولة.
3- لقد اكتشف ماركس
قانون الاستغلال الذي يحكم الرأسمالية، أي
أضاء الرأسمالية بوصفها نظاما استغلاليا.
فالرأسمالية تظهر على السطح نظاماً يحكمه
منطق المساواة، سواء أكان ذلك على الصعيد
السياسي أم على الصعيد الاقتصادي. فالدولة
البرجوازية الناضجة تقوم على أساس
المواطنين المتساوين أمام القانون.
والاقتصاد البرجوازي يقوم على أساس
الأفراد الأحرار الذين يمارسون خياراتهم
وعمليات التبادل فيما بينهم بحرية تامة.
فكل فرد حرّ يحصل في النهاية على ما
يقدمه، أي على ما يستحقه حقاً.
لكن ماركس بين أن علاقات
المساواة هذه تخفي تحتها لامساواة بنيوية
لا تقل حدة عن نظيرتها في أنماط الإنتاج
ما قبل الرأسمالية. وكان مفتاحه لذلك هو
تمييزه بين العمل وقدرة العمل. فالرأسمالي
لا يشتري عمل العامل بماله، وإنما قدرة
عمل العامل، وبالسعر الضروري لبقاء
العامل وذريته. وبالمقابل، فإن العامل
يمنحه عمله، هذا النشاط المدهش الذي يخلق
القيمة، قيمة المنتج. وبالطبع، فان
القيمة التي يخلقها العمل تفيض عن قيمة
قدرة العمل. أما فائض القيمة، فيتملكه
الرأسمالي بحكم احتكاره شروط الإنتاج،
ويراكم به رأسماله ويسد به حاجاته
المتراكمة. بذلك، بين ماركس أن العامل
يقضي جزءاً من وقت عمله لنفسه، لكنه يقضي
الباقي لرب عمله، لسيده الفعلي. وهو في
ذلك لا يختلف كثيراً عن فلاح العصور
الوسطى. فلئن كان الفلاح يخصص جزءاً من
وقت عمله لنفسه، ويخصص الباقي لسيده
الإقطاعي، فإن العامل الصناعي يفعل الشيء
ذاته، بالنسبة إلى الرأسمالي. والفارق بين
العمليتين أنها جلية مكشوفة ومباشرة
(سياسية عسكرية) في الإقطاع، في حين أنها
مستترة وغير مباشرة (اقتصادية) في
الرأسمالية. لكن الجوهر واحد: طبقة حاكمة
تسلب طبقة محكومة جهدها وعرق جبينها.
وبالطبع، كان على ماركس بناء علم جديد لكي
يكشف عن هذا الجوهر الاستغلالي في
الرأسمالية. إذ بين به أن الرأسمالية ليست
نظاما طبيعيا يعبر عن نضج الحضارة ونهاية
التاريخ، وإنما هي نظام طبقي استغلالي
تحكم علائقه الاستغلالية مجمل أحداثه
وتطوراته.
4- يمكن القول إن
ماركس اكتشف قانون زوال الرأسمالية إما
بدمارها (وربما دمار الحضارة البشرية
معها) وإما بتخطيها صوب المجتمع الشيوعي.
ويتمظهر هذا القانون في احتدام الأزمات
الاقتصادية وتفاقمها وتصاعدها وفي احتدام
الصراع الطبقي والحروب بين تكتلات الأمم.
ويدل تاريخ الرأسمالية أن الأزمات
الاقتصادية والثورات الاجتماعية والحروب
الفتاكة مصاحبة للرأسمالية في جميع
مراحلها، وهي في ازدياد وتصاعد مستمرين.
بيد أن ماركس لم يكتف بالمظهر، وإنما سعى
إلى التعبير بدقة عن جوهر قانون زوال
الرأسمالية، والذي يفسر تداعياته الظاهرية
كالأزمات والثورات والحروب. ورأى ماركس أن
جوهر هذا القانون يكمن في السيرورة
والتناقض الآتيين: إن الرأسمال يقوم ويجدد
نفسه بالعمل. بل إنه عمل مخثر مغترب يتغذى
على العمل الحي ويسمن عليه، وذلك بأسر
قوة العمل واستعبادها باستمرار. لكنه، في
الآن ذاته، وبفعل الطبيعة التنافسية
الفوضوية للرأسمالية، يعمد الرأسمال إلى
تخفيض كلفة إنتاج السلع، بما في ذلك سلعة
قوة العمل، عن طريق تطوير التقانة، حتى
يتسنى له أن يحتل موقعاً تنافسيا أفضل في
السوق. بذلك فهو يعمل باستمرار على تعظيم
دور التقانة على حساب العمل. فالتقانة
تقلل من حاجته إلى العمل الحي. لذلك،
يتنامى الرأسمال بوصفه عملا مخثراً
مغتربا، أو ما أسماه ماركس الرأسمال
الثابت، في الوقت الذي يتضاءل فيه العمل
الحي، أو ما أسماه ماركس الرأسمال
المتغير. ويقود ذلك إلى الميل إلى انخفاض
معدل الربح. ويمكن اعتبار قانون الميل إلى
انخفاض معدل الربح قانون زوال الرأسمالية.
وبالطبع، فإن الرأسمالية تلجأ إلى اتخاذ
إجراءات تحد من أثر هذا القانون، ومن
ضمنها إتلاف المنتجات والحروب والقروض
وتوسيع الأسواق وتصدير رأس المال
والاستعمار والاحتكار. لكنها لا تستطيع أن
تلغيه. ومن مظاهر هذا القانون تقلص القوة
الشرائية، مقارنة بالقوة الإنتاجية، الأمر
الذي يقود إلى إفلاس المنشآت وتصاعد
البطالة في صفوف الطبقة العاملة وتصاعد
الاحتكار. ولعل هذا القانون هو أكثر
قوانين ماركس إثارة للجدل والسجال بين
الماركسيين أنفسهم. فهناك منهم من يشكك في
الفاعلية التفسيرية لهذا القانون. بل هناك
من يشكك في وجوده وشرعيته العلمية. لكن
ميل الرأسمالية إلى التأزم وميل أزماتها
إلى التفاقم لا يترك مجالاً واسعاً للشك
في وجود هذا القانون.
5- اكتشف ماركس ما
يمكن وسمه بقانون الفتشية
Fetishism
أو الصنمية الرأسمالية.
ومفاد ذلك أن طبيعة الرأسمالية تحول قوى
وعلائق بشرية إلى قوى موضوعية شبه طبيعية
تجابه البشر، بحيث تبدو العلائق
الاجتماعية بين الأفراد وكأنها علائق
اجتماعية بين الأشياء، وتبدو الأشياء
وكأنها تتمتع بخصائص اجتماعية إلى جانب
خصائصها المادية الطبيعية. وعليه، يهمش
البشر وفعلهم فاسحين المجال لقوى
الاغتراب الرأسمالي، كالرأسمال والمال
والسلع. فيغدو الرأسمال القوة الرئيسية
المسؤولية عن النمو والتنمية والعمالة
والرفاه. ويغدو الجميع في خدمته طوعاً أو
قسراً. إنه القوة الرئيسية التي تحرك
المجتمعات والبشر. فالمجتمعات لا تتحرك
بفعل الإرادة الجمعية أو الفردية الواعية
للبشر، وإنما بفعل الرأسمال وقوته
الذاتية. بل إن المجتمع الرأسمالي برمته
يغدو آلة ضخمة معقدة تحكمها قوانين
موضوعية خارج الإرادة والعقل البشريين.
فبدلاً من أن يكون تعبيراً عن وعي البشر
وفعلهم الواعي المنظم، فإنه ينقلب قوة
غريبة في مجابهة البشر وخارج تحكمهم
الواعي. وبرغم ما يقوله النيوليبراليون
Neoliberals
من أن السوق إله حنون يصحح نفسه بنفسه
ويخدم البشر في أفضل صورة ممكنة من دون
تدخل الدولة أو إي كان، فإن تاريخ
الرأسمالية يشير بجلاء إلى أن المجتمع
الرأسمالي أقرب ما يكون إلى الفرس الجامحة
التي تحكمها أهواء غير مفهومة والتي يصعب
التحكم فيها وضبطها، الأمر الذي يجعل هذا
المجتمع خطراً جسيما على البشر وبيئتهم.
ومع أن الرأسمالية قد خلقت علما اقتصاديا
واجتماعيا متطوراً يمكنها أحيانا من
التخفيف من الآثار المدمرة لتناقضاتها
وضبط جموحها إلى حدّ ما، إلا أنه ليس هناك
ما يضمن أن يفلح هذا العلم دوما في منع
الانهيارات والكوارث والدمار المصاحبة
لمسيرتها. ولئن كانت المشكلة الرئيسية في
أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية تتمثل في
جموح الطبيعة وعدم القدرة على التحكم فيها
وضبطها، فإن نظيرتها في نمط الإنتاج
الرأسمالي تكمن في جموح السوق الرأسمالية
والعجز عن ضبطها والتحكم فيها.
6- أكد ماركس على أنه
لا يمكن حل أزمات الرأسمالية ومشكلاتها
المزمنة ضمن إطارها. فحلها يستلزم تخطيها،
إزالتها، تحويلها إلى نمط إنتاج آخر.
وبصورة خاصة، فإنه يستلزم تحويل المجتمع
من نظام شبه طبيعي تحكمه قوانين خارج
الإرادة والعقل، أي تحكمه قوى السوق
العمياء، إلى تجسيد جليّ للإرادة البشرية
الجمعية الواعية والعاقلة، والذي تتحكم به
هذه الإرادة بفضل طبيعته تجسيداً مباشراً
لها، ويكون قادراً أيضا، بفضل تطوره
التقاني، على التحكم في قوى الطبيعة. وقد
أسمى ماركس المجتمع المطلوب المجتمع
الشيوعي. ورأى أن عماده هو الملكية العامة
لوسائل الإنتاج والاتصال والتبادل، لا
الملكية الخاصة كما في الرأسمالية.
فالمجتمع الشيوعي لا تحكمه قوى عمياء،
طبيعية كانت أو اجتماعية، وإنما الإرادة
البشرية الجمعية الواعية والعاقلة، لأنه
امتداد مباشر لها. ورأى ماركس أن الطبقة
المهيأة لتحقيق هذا الانتقال هي الطبقة
العاملة، حفارة قبر الرأسمالية والتي تسعى
إلى إلغاء نفسها بوصفها طبقة وإلى إلغاء
الاستغلال الطبقي، ومن ثم الطبقات
الاجتماعية جميعا، في شتى صوره التاريخية.
وبالمجتمع الشيوعي تنتهي مرحلة ما قبل
التاريخ لكي تبدأ مرحلة تاريخ الإنسان.
فالمجتمع الشيوعي سيمثل مرحلة نضج الإنسان
– المرحلة التي تليق بتميز الكائن
الإنساني وجوهره الخلاق .
هذه مقدّمة مكثفة جداً
لفلسفة كارل ماركس، آمل في أن يتفرع عنها
مستقبلاً فيض من المعالجات والقضايا
الفلسفية والفكرية الأساسية.
عن
صحيفة الأفق الأشتراكي الألكترونية
أهم أعمال ماركس الفلسفية
والعلمية
.1 أطروحته للدكتوراة
حول المادية الإغريقية (1841).
.2 نقد فلسفة هيغل في
الحق (1843).
.3 حول المسألة
اليهودية (1843).
.4 مخطوطات باريس
الفلسفية والاقتصادية (1844).
.5 العائلة المقدسة
(1845).
.6 أطروحات حول
فويرباخ (1845).
.7 الآيديولوجيا
الألمانية (1846).
.8 بؤس الفلسفة
(1847).
.9 البيان الشيوعي
(1848).
.1. العمل المأجور
والرأسمال (1849).
.11 الصراعات الطبقية في
فرنسا (185.).
.12 البرومير الثامن
عشر للوي بونابرت (1852).
.13 الغروندريسا
Grundrisse
(1857).
.14 إسهام صوب نقد
الاقتصاد السياسي (1859).
.15 نظريات فائض القيمة
(1863).
.16 الرأسمال، المجلد
الثالث (1865).
.17 الأجور والسعر
والربح(1865).
.18 الرأسمال، المجلد
الأول (1867).
.19 الرأسمال، المجلد
الثاني (1869).
.2. الخطاب الافتتاحي
للرابطة الأممية للعمال وقواعدها (1864).
.21 الحرب الأهلية في
فرنسا (1871).
.22 تعليقات على كتاب
باكونين" الدولانية والفوضى" (1875).
.23 نقد برنامج غوثا
(1875).
.24 تعميم إلى قادة
الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني
(1879).
.25 رسالة إلى فيرا
زازولتش (1881).
.26 توطئة للطبعة
الروسية الثانية للبيان الشيوعي (1882).
وذلك بالإضافة إلى حشد
كبير جداً من المقالات والخطابات والرسائل
والتحليلات المتنوعة.