الطبيعة لا تجد من تراسله !
بركان أيسلندا ..
د. أحمد الخميسي
لا تجد الطبيعة من تراسله ، ومع ذلك فإنها تواصل كتابة رسائلها بيد
الزلازل المهتزة ، وبماء الكتل الجليدية التي تغرق الغابات، وبحرارة
عالية فوق سطح الأرض والمحيطات ، وهاهي تكتب الآن بغبار البراكين ، من
جزيرة صغيرة نائية هي أيسلندا ، تقع أقصى شمال غرب أوروبا ، ولا يتجاوز
تعداد سكانها نصف المليون . تكتب الطبيعة هذه المرة بثورة بركانية ،
وتنقل رسالتها للعالم على سحابة رمادية قد تمر فوق بلادنا . وقد عزلت
السحابة أوروبا عن العالم ، وبينت للبشرية أن مصيرها وعقلها مهدد وأعزل
، وأن في الطبيعة قوى أضخم قد تطيح في لحظة واحدة بكل نظام خلقه العقل
البشري . أوروبا – أعلى نقطة في التطور – معزولة وعاجزة أغلقت مطاراتها
في بريطانيا والنرويج والدانمارك وألمانيا وبلجيكا ، لأن
سحابة البركان الرمادية تحمل الفوسفور سريع الاشتعال الذي إذا اختلط
بوقود الطائرات رفع درجة حرارة المحركات وعطلها ، كما أن السحابة مثقلة
بشحنة هائلة من كهرباء ساكنة تتجمع على هيكل الطائرات وتشل نظم الاتصال
فيها . الطبيعة تحذر من أنها ليست مستقرة ، وحالتها الراهنة ليست
أبدية،
ويعلم الإنسان أنه لا مفر من حلول وقت لا يعود فيه دفء الشمس المتناقص
كافيا لإستمرار الحياة ولا كافيا لإذابة الجليد الزاحف من القطبين ،
هناك ، حيث سيختفي تدريجيا
آخر أثر لمجرد الحياة العضوية ، ولا مفر من وقت تمسي فيه الأرض كرة
متجمدة خامدة كالقمر ، تدور في فلك مظلم يضيق حول الشمس لتسقط في
النهاية فوق الشمس . يعلم الإنسان أن الأجرام السماوية ستتهاوى فوق
بعضها البعض ذات يوم ، وأن الطبيعة ستبيد أرفع مخلوقاتها أي العقل
المفكر . لكن الإنسان لا يعلم ما إن كانت ستعيد إنتاج ذلك العقل في
مكان وزمان آخرين أم لا ، وما إذا كان ركام مجموعتنا الشمسية سيتحول
مرة أخرى ، في المستقبل البعيد ، إلي مادة خام لمنظومات شمسية جديدة أم
لا . يستطيع الإنسان أن يتحكم وأن يطور ما يعرفه وما هو قائم أمامه ،
لكن الإنسان يتحرك ليس لحماية تلك الظاهرة النادرة المسماة الحياة ، بل
يتحرك ضدها وضد الطبيعة التي تكتب له من دون كلل الرسالة تلو الرسالة
لتحذره ، وتنبهه ، تكتب له من أيسلندا التي يعتمد اقتصادها أساسا على
الطبيعة والأسماك ، تكتب له ببركان من مركز الأرض ، هناك حيث دارت في
ذلك المركز في أيسلندا أحداث رواية " رحلة إلي مركز الأرض " لجول فيرن
! تكتب له بماء الكتل الجليدية ، وبلهب البراكين ، وبقلاقل الزلازل ،
لكنه لا يسمع ولا يقرأ ، وبدلا من أن يخترع ويفكر ويجد حلولا ، فإنه
يبذل قصارى جهده ليضاعف بالكوارث الاجتماعية خطورة الكوارث الطبيعية .
تكتب الطبيعة للإنسان بسحابة بركان واحد ، وتحتفظ لنفسها بمادة رسائل
جديدة داخل نحو خمسمائة بركان نشيط وأربعمائة بركان آخر خامد في
العالم . لكن الإنسان الذي لا يقرأ ما تحمله السحب ، يواصل إبادة البشر
، وإتلاف الطبيعة ، بحروبه التي أهلك فيها 15 مليون نسمة مابين القرن
17 و19 ، وبحربين كبيرتين في القرن العشرين أهلك فيهما ستين مليون
إنسان ، بينما أهلكت أمريكا وحدها بمئتي حرب خلال مئتي عام ستين مليون
نسمة ! وعلاوة على الحروب تستمر البشرية في توسيع ثقب الأوزن، ونشر
الاحتباس الحراري بتلويث الجو ، وخلق كوارث مثل كارثة تشيرنوبل عام
1984 ، وكارثة مصنع الكيماويات بمدينة تولوز الفرنسية في 2001 ، وكارثة
المصنع البتروكيماوي في جيلين بالصين عام 2005 ، ومراكمة الأسلحة
النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل . لا يدري الإنسان متى أو أين
قد تتاح للكون الفسيح فرصة لظهور الحياة مرة أخرى وظهور " العقل المفكر
" ، وبدلا من أن يؤجل الإنسان لحظة غروب الطبيعة فإنه يعجل بها ، بسبب
الطمع والجشع الذي تقوم عليه النظم الاجتماعية التي تنادي بأن الربح
أهم من أي شيء ، من الحياة ، ومن الطبيعة ، ومن الوجود ، ومن تكريس
العلم لقضايا البيئة . نعم ، ليس للطبيعة من تراسله .
***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com