خرج المنطق من حياتنا
من يجده يتصل بنــــــا !
د. أحمد الخميسي
يقال إن التفاصيل في الفن هي التي تصنع كل شيء . التفاصيل في حياتنا أيضا هي
الأساس . التفاصيل الكثيرة التي تثب وتخرج لسانها لتقول لك لقد اختفى المنطق من
حياتنا . تفاصيل عجيبة تجعلك تشعر بأنك تواجه واقعا مختلا يمضى ويتحرك ويتقدم
ويتأخر ويتمدد ويتقلص بدون أي منطق ، كأنه مشهد عبثي ضخم ونحن فيه عرائس في
مسرحية أحلام بلا رابط ، تحركنا من أعلى قوانين اقتصادية واجتماعية وسياسية .
المنطق يقول إن أديبا كبيرا في التسعين من عمره هو يوسف الشاروني لابد أن يحظى
برعاية الدولة ، أو على الأقل الا يخرجه أحد من شقته ، لكن عضو مجلس الشعب صاحب
العمارة التي يسكنها الشاروني في المعادي قرر هدمها على رؤوس السكان وطرد
الكاتب منها ليتمكن من إقامة عمارة مرتفعة ! المنطق يقول إن الطلاب هم الذين
يضربون بينما يلومهم الأساتذة على تهورهم ، لكننا شهدنا مؤخرا إضرابا لأساتذة
الجامعة وطلابا يحاصرون الإضراب بعرض عسكري ! المنطق يقول إن من يفوز بجوائز
الحج والعمرة هم المسلمون ، لكن الحزب الوطني في مدينة 6 أكتوبر نظم حفلا
لتكريم الأم المثالية والتكفل بمصاريف عمرة لها ، فازت فيه بالجائزة المواطنة
القبطية سارة فوزي طناس؟! . المنطق يقول إن عاصمة كالقاهرة في أمس الحاجة لزرع
الأشجار لتنقية الهواء إن لم يكن بدافع جمالي ، أما في الواقع فتقرأ أن إدارة
حي السيدة زينت قامت في سبتمبر العام الماضي بمذبحة قطعت خلالها الأشجار
الخضراء التي كانت تظلل شارع نوبار والشوارع المحيطة به ، وأن الإدارة ارتكبت
مذبحتها تلك في منتصف الليل كاللصوص الذين يقترفون الجرائم تحت جنح الظلام .
المنطق يقول إن الأطباء للعلاج ، أما في الواقع فإنك تقرأ عن حادثة الموظفة
التي اغتصبها طبيب في عيادته ! المنطق يقول إن الشرطة في خدمة الشعب ، أو على
الأقل لا تضر الشعب، لكنك تقرأ كل يوم عن المواطنين الذين يدخلون لطلب الخدمة
فيخرجون مشوهين من التعذيب ! والمنطق يقضي بأن التلاميذ يتجهون للمدارس لتلقي
العلم ، فإذا ببعضهم يتلقى الضربات حتى الموت أحيانا ! المنطق يقضي بأن الأصوات
الجميلة هي التي تغني ، فإذا فقط بالأصوات القبيحة تملأ الساحة وحدها زعيقا
منفرا ! وها أنت ترى أن الغالبية العظمى من الكتاب تقرأ ، بينما الغالبية
العظمى من القراء تكتب ! المنطق يقول إن بلدا بمثل أوضاعنا لابد أن تسد حاجتها
ذاتيا من القمح ، والحبوب ، فإذا بنا نسد احتياجاتنا من الرواية ونكتفى ذاتيا
بعد أن أصبح لدينا روائي لكل مواطن ! المنطق في كل الدنيا يقول إن المواصلات
للتحرك والانتقال من جهة إلي أخرى ، لكن عندنا المواصلات هي للتعطل والتوقف بين
جهة وأخرى . وفي كل دول العالم يحفظون اللحوم في الداخل ويعرضون الأحذية في
الخارج ، لكننا نفعل العكس ، اللحوم في الشارع والأحذية وراء الزجاج ! في
الدنيا كلها يحتفون بالجمال ، لكننا نقدس القبح ، وحين يكون لدينا شارع له طابع
تاريخي وجمالي خاص مثل طلعت حرب فإننا نسارع ببناء مبنى ضخم قبيح في وسطه تحت
عنوان " مول تجاري " . في روسيا قام النظام السوفيتي بهدم إحدى أهم الكنائس
بموسكو ، فتمت إعادة بناء الكنيسة كما كانت بالطراز نفسه بصبر وعلى مدى سنوات
طوال . أما عندنا فإننا سارعنا حين احترقت الأوبرا القديمة إلي بناء جراج
سيارات مكانها ! المنطق يقول إنه عندما تصبح حياة المواطن معاناة متصلة بشأن
السكن والتعليم والعلاج والرواتب فإنه لا يغني – كما يفعل المواطن عندنا- "
حلوة يا بلدي " ! ولقد تطور مفهوم المنطق في رحلة طويلة من المنطق الصوري إلي
المنطق الجدلي ، لكن التفاصيل التي تثب إلينا هنا وهناك لا يمكن إخضاعها لأي
مفهوم للمنطق عبر التاريخ! فلا هي ماشية " صورى" ولا هي ماشية " جدلي" . لقد
خرج المنطق من حياتنا ، ولم يبق إلا أن نعلن عن مكافأة كبيرة لمن يعثر عليه أو
يستدل على مكانه ، بعد أن صارت القاعدة الوحيدة أنه ما من قاعدة لأي شيء .
***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com
الصفحة
الرئيسية
|
مقالات
|
دراسات
|
عمال
ونقابات
|
فنون وآداب
|
أرشيف
الأخبار
|
المرأة
|
الأطفال
|
إتصل بنا