<%@ Language=JavaScript %>  سلام عبود خفايا هزيمة الجيش العراقي في الموصل: مؤامرة في المؤامرة

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

خفايا هزيمة الجيش العراقي في الموصل:

 

مؤامرة في المؤامرة

 

 

سلام عبود

 

يضرب المحللون والمراقبون أخماساً لأسداس وهم يبحثون عن أسرار هزيمة قوات عديدها مئة وأربعون ألف مقاتل ( أربع فرق، قوام كلّ فرقة خمسة وثلاثون ألف جندي)، تمتلك ما يقرب من نصف مليون قطعة سلاح متنوعة، من بندقية الى أحدث مدفعيّة وأقوى سلاح دروع ودبّابات  وطائرات مروحية مقاتلة، ثمنها مليارات الدولارات. وبصرف النظر عن حجم القوّة المقابلة، التي قيل إنّها لا تتجاوز بضعة آلاف ( قدّر مسعود البارزاني عددهم "بألف أو ألفين)، وقيل المئات أيضا. (حدّد الإعلام المقرّب من الحكومة العراقيّة عددها بتسعمئة مقاتل دخلوا الموصل)، فإنّ السرّ المحيّر لا يكمن في الخسارة العسكريّة، أيّ في نتائج المعركة، بل في "اختفاء" هذا الجيش العرمرم. والأكثر إثارة "اختفاؤه" تاركاً خلفه أسلحته وحتّى وسائل نقله. إن ترك الدبّابة والمدرّعة باعتبارهما "وسيلة نقل" سريعة، والهروب ركضاً على الأقدام، أثارت الحيرة الشديدة، وجعلت تعبير "انسحاب" أو"انهيار"، الذي استخدمه مسعود البارزاني وأثيل النجيفي مشكوكاً فيه، وتعبير "استسلام" الذي استخدمه محتلو الموصل خالياً من الدقـّة، وتعبير "تراجع" الذي استخدمته الحكومة العراقية مضللاً. لقد أشار المالكي في أوّل خطاب له عقب الحدث بأنّه سيقاضي المتراجعين حتّى لو اختبأوا في "بيوت أمهاتهم". لكنّ الوقائع تشير الى أنّه لم يذهب أحد الى بيت أمّه. فأين اختفى هذا الجيش الجرّار؟ الجميع يعرف أين ذهبت الأسلحة، التي تقاسمها الخصوم المسلـّحون والقوّات الكرديّة. ولكن أين ذهب الجيش؟

هذا هو السؤال الأوّل، الذي يُعدّ مفتاحاً ممهّداً لحلّ لغز سقوط الموصل. وهوسؤال لم يجب عنه تيّار "دولة القانون" الحاكم بعد.

لماذا الموصل؟

أربعة أسباب تجعل من الموصل هدفاً رئيساً في الصراع القائم. الأوّل ، تاريخيّ يعود الى أنّ الموصول، وليس الرمادي، تشكل ذاكرة تاريخيّة قوميّة تؤهل رمزيّاً لقيام دولة عربيّة (سامراء أيضاً)، وتؤهل اجتماعيّا ًبسبب عمقها القومي وحجمها السكانيّ لقيام كيان مواز لبغداد. ثانياً، الطبيعة الجغرافيّة النموذجيّة: متاخمتها لتركيا، التي هي طرف رئيس في السقوط، ومتاخمتها للحدود السوريّة، التي تعطيها بعداً جغرافيّاً وعسكريّاً توحيديّاً، ومتاخمتها للقوات الكردية، التي تمنح مسلحيها حرّيّة الحركة بحياديّة مطلقة، (أكدت وزارة البيشمركة في حكومة إقليم كردستان العراق، امس السبت، أن قواتها مسؤولة عن الحفاظ على أمن إقليم كردستان والمناطق الكردستانية خارج الإقليم ، وإن إقليم كردستان ليس طرفاً في ايّ نزاع بين المكونات، وهددت بـ "الرد بقوة" إذا استمرت الجماعات الإرهابية بمهاجمة قواتها في تلك المناطق. (المدى- العدد(3114) -   السبت 2014/06/28 )

 وبعدها عن المركز ( قام فيها أوّل تمرد عسكريّ واسع على حكومة عبدالكريم قاسم في 8 آذار 1959). أمّا السبب الثالث فهو عسكريّ خالص. فقد انشغلت القوّات العراقيّة بمواجهات عسكريّة واسعة في مناطق غرب العراق، وظلـّت المواجهات العسكريّة في الموصل محدودة نسبيّاً، مع سيطرة ظاهريّة للجيش العراقيّ على جلّ القصبات والأحياء السكنيّة، وسيطرة تامة على قضاء "تلعفر" ذي الهوية الشيعيّة - التركمانيّة. قبيل سقوط الموصل استطاعت المجموعات المسلـّحة السيطرة على المدينة التاريخية الرمزيّة الثانية سامراء، لمدّة يومين، في هجوم مباغت. ثمّ أعلنت الحكومة تطهير سامراء وتحويلها نقطة دفاع وتحشيد متقدمة الى الشمال من بغداد. احتلال سامراء واختفاء المهاجمين بعد استعادتها يذكـّر الجميع بحادثة هروب سجناء "أبو غريب" الألف واختفائهم. وهي سابقة تؤكد الفرضية نفسها، التي ارتكزت عليها عملية احتلال الموصل. فقد أثبتت هذه الأحداث، بشكل جلي، الخصائص الجوهرية الحقيقية للمنظومة الأمنية العراقيـّة، وللجيش تحديداً : جيش أكثر غربة من جيوش الاحتلال، لا يسيطر إلا على الطرق الرئيسيّة، حتّى في العاصمة ومحيطها. الخلاصة التي توصل اليها المسلـّحون، وخصوم المالكي السياسيّون، هي أنّهم يواجهون هياكل نارية حاشدة ومتطورة، لكنّها خالية من التجانس والوحدة والإرادة البشريّة والفعالية المهنيّة، تسهل عملية اختراقها واصطيادها وتدميرها.

ولكن لماذا الموصل الآن؟

من الضروريّ هنا الإشارة الى حقيقة يجهلها كثيرون، هي أنّ الموصل لم تكن ضمن مناطق النفوذ البريطانيّ في معاهدة التقسيم المسماة "سايكس – بيكو" 1916. لقد انتزعها البريطانيّون من يد الفرنسيين، وجعلوها وسيلة للابتزاز السياسيّ طوال عقد من الزمن.  لذلك لم تكن الموصل ضمن قواعد التأسيس، بل كانت ضمن قواعد إعادة التأسيس. لقد اتخذ البريطانيون من الورقة الموصليّة لعبة مركبّة، استخدموها لغرض ابتزاز الملك فيصل الأوّل وتخويفه بالمطالب التركيّة القاضية بتبعيّة الموصل لها، واستخدموها ورقة ضغط ضد الفرنسيين أيضاً في مواجهة تركيا، ثمّ استخدموها لمصلحة الأميركان في عمليّة التحاصص النفطيّ في مواجهة فرنسا. كانت الموصل لعبة البريطانيين المفضّلة والرابحة في سنوات إعادة التأسيس، وها هي تعود مجدّداً ورقة هامّة في  خطط إعادة التأسيس ولكن أميركيّا. السيطرة على الموصل وبيجي وتقاسم كركوك يقود الى نشوء دولتين نفطيتين جديدتين في المنطقة، هما دولة كردستان وإمارة العراق والشام. أمّا تركيا فهي لا تحتاج الى دور نفطيّ، لأنّها المتحكـّم الأوّل والأخير في شؤون تسويق نفط الدولتين. ولهذا نجد حكومة الاردن تسعى هي الأخرى بقوّة للحصول على دور ما في حصص توزيع النفط. وما دعمها العلنيّ للمعارضة العسكريّة في العراق سوى ورقة ابتزاز للطرفين الحكوميّ والمعارض. هذا هو السبب الرابع في نظرية سقوط الموصل.

تشابك الأسباب والنتائج

ولكن، لغرض فهم هذا التشابك المعقـّد، لا بدّ من العودة بضع سنوات الى الوراء، الى عام 2008، الى ما يعرف بـ "صولة الفرسان". آنذاك قامت القوات العراقية بتطويق الموصل لعدّة أشهر، وتمّ تأجيل لحظة الاقتحام غير مرّة، حتّى بلغ التهديد بالاقتحام الذروة في العشرين من آذار. رافق التصعيد العسكريّ تصعيد طائفيّ اتهم فيه المالكي بالعداء "للسنّة"، واتهم المالكي خصومه بالتآمر الطائفي لتقسيم العراق. ولكن، فجأة، ومن دون تمهيد، وجد الجميع أنّ قوات "صولة الفرسان" انقضّت بسرعة فائقة ( خلال ست وثلاثين ساعة)، بمعونة قوات بريطانيّة على البصرة، ثمّ على مدينة الصدر في بغداد بمعونة قوات أميركيّة، ومرّت الصولة على مدن جنوبيّة أخرى كالناصرية والعمارة. لقد استدارت القوات الحكوميّة  بنسبة 180 درجة مئوية باتجاه الجنوب، أي باتجاه المناطق الشيعية، لتحدث مجازر جماعيّة، سقط على إثرها أكثر من ثلاثة  آلاف قتيل، وتمّ تصفية خصوم أقوياء مسلـّحين كجيش المهدي وجماعة الصرخي ( تعالت الأصوات مجدّداً،عقب سقوط الموصل، داعية الى إجتثاث ما بقي من جماعة الصرخي!). تمّت الاستدارة في الوقت الذي كان ما يعرف بـ"جماعة المانحين" يعقدون اجتماعاتهم في الكويت. لقد سمع المجتمعون أصوات المدافع وهي تدكّ البصرة "الشيعيّة". كانت رسالة المالكي واضحة: لست طائفيّاً، دليلي على ذلك أنني قادر على سلخ جلد الشيعة علناً. الرسالة نفسها أعلنها المالكي في مؤتمر ستوكهولم للمانحين، الذي عقد عقب الصولة: لست طائفيّاً، كما يدّعي الذين اتهموني بتطويق الموصل، التي كان بمقدوري اقتحامها ولم أفعل.

عقيدة قتالية أم مؤامرة: الجيش الراقص!

تفسيران رئيسان مهمّان حاولا ايضاح سبب "اختفاء" القوات العراقيّة. الأوّل يقول بنظرية فقدان العقيدة القتاليّة. وهو رأي يجمع عليه كلّ القائلين، عدا جماعة المالكي، الذين يصرّون على نظريّة المؤامرة. ولكن، عند تمحيص التفسيرين نجد أنّهما خاطئان تماماً، كتفسير آحاديّ، إذا أخذ كلّ واحد منهما منفصلاً عن الآخر. ولكنـّهما صائبان تماماً باعتبارهما حزمة متكاملة.

القائلون بفقدان العقيدة، صائبون في موطن واحد، هو أنّ العقيدة القتاليّة للجيش لها دور كبير في حدوث الهزيمة الخياليّة لقوات عسكريّة ضاربة أمام عدد محدود من المقاتلين المسلـّحين بأسلحة متوسطة. بيد أنّ الخلل يكمن في نفي وجود العقيدة، وليس في تثبيتها سبباً للهزيمة. إن الجيش الذي كان يطوق مناطق صلاح الدين والموصل والفلوجة والرمادي لم يكن مجرّداً من العقيدة. كان يمتلك عقيدة واضحة المعالم، يستطيع أيّ متابع للانترنيت تشخيصها بدقـّة بالغة. في الأفلام التي بثتها مصادر طائفيّة، ترتبط بالقوات العراقيّة، نجد مئات الوثائق التي ترسم عقيدة هذه القوّات. نضع بين يدي القارئ وثيقتين فحسب، هما فيلمان قصيران عن طبيعة القوات العراقيّة في الموصل، وعن سبل تعاملها مع خصومها ومحتوى خطابها الموجه الى أبناء المناطق المختلفة طائفيّا:

 الوثيقة الأولى اسمها " العقيد المتوحش خالد (كوسوفي) الذي ملأ الموصل رعبا"، والوثيقة الثانية تحمل الرابط الأتي:

" www.youtube.com/watch?v=XzcE7Vg8_w4"

في الوثيقتين لا نجد جيشاً وطنيّاً، بل نجد عسكريين متحللين خلقيّاً، يفتقرون الى القيم الوطنيّة، والى القواعد المهنيّة، والمشاعر الإنسانيّة، يرقصون حول أسرى معصوبي الأعين بطرق مثيرة للاشمئزاز، ويتغنـّون بشعارات يحمّلونها مضموناً عقائديّاً زائفاً، يقوم على الأسس التالية: إنّ النصر لا يتحقق بفعل إيمانهم بقيمهم الوطنيّة وإخلاصهم وتدريبهم، بل يأتي من مصدر إلهامي واحد، هو "حيدرة"- الإمام علي- الذي اعتبره التاريخ المثال الأعظم للتسامح حتّى مع قاتليه. لقد أثبتت وقائع جلسات الحوار في الأيّام الماضية أنّ تيار المالكي هوالتيار الأكثر استخفافاً برأي المرجعيّة الشيعيّة (خطوطها الحمر)، التي يتظاهرون دجلاً بتقديسها! أمّا الفارق العظيم بين عقيدة جيش المالكي الراقص والعقيدة القتالية والأخلاقية لـ "حيدرة" الكرار فهي لا تحتاج الى شروح!  والثاني نعت أعدائهم بأوصاف تحقيريّة، بعضها طائفيّ صريح والآخر جنسيّ بشع، كالاتهام باللواطة والعهر وغيرهما. أمّا أهمها فهو اتـّهام خصومهم بأنـّهم جبناء" يهربون كالنسوان". وقد أظهر هذا الجيش أنّ انطباعاته العقائديّة عن معارضيه معكوسة تماماً، حينما كشف للجميع جبناً مثيراً للدهشة أثناء هروبه من أرض المعركة الوهميّة. ثالثا: حدّدت هذه الوثائق أنـّهم ليسوا مفرّغين من التوجّه المهني والقتاليّ، بل هم يتبعون نهجاً سياسيّا محدّداً ومعروفاً، اسمه : "صولة الفرسان"، بكل ما يحمله التعبير من دلالات، أهمها: أنّهم يثبتون لا طائفيتهم من طريق الضرب الوحشي للشيعة قبل السنـّة، وأنـّهم لا يملكون في مواجهة المدن المتمردة سوى الحركة على الطرقات الخارجيّة، وفي داخل المدن لا يملكون سوى التحكـّم بنقاط السيطرة والحواجز، وأنّ مهمـّتهم التي دربّهم جنود الاحتلال عليها لا تتعدى اقتحام البيوت والتنكيل بأهلها وتحقيرهم، أو ضرب  الأحياء السكنية عن بعد. جيش مثل هذا، بمثل هذه العقيدة، تمّ تكوينه على يد مدربين أميركان، يحملون عقيدة المحتل العسكرية بما تتضمّنه من بشاعة ولا إنسانيّة، في ظلّ الفساد السياسيّ والإداريّ والأخلاقيّ. إنّ جيشاً له عقيدة قائمة على الارتزاق العلنيّ، والتنكيل العلنيّ، والتبجح اللاأخلاقي العلنيّ، لا يستطيع تأدية مهام قتاليّة من أيّ صنف، ناهيك عن القيام بمهام وطنيّة كبرى. إنّ العقيدة التي بني عليها جيش "العراق الديموقراطي" قائمة على مبدأ الفساد الكليّ أخلاقيّا ومهنيّا. وقد وصل هذا الفساد حدوداً تفوق الخيال. فقد اكتشف مسؤولو محافظة الأنبار الموالون للحكومة أنّ بعض أفواج الجيش العراقي، التي طلبوا نجدتها لصدّ هجوم المسلـّحين، كانت وهميّة. واكتشف مقاتلو "الصحوات"، الذين قاتلوا في المناطق المضطربة الى جانب الدولة، أنـّهم حُرموا من مرتباتهم عدّة أشهر، لأنّ من عهد اليه المالكي بتمويل المقاتلين اختفى مع مرتباتهم! لقد اضطرّت السلطة الى الاعتراف ببعض تلك الفضائح لتغطية حجم الفساد العظيم. في منتصف عام 2007، بعد سنتين من تسّلم الماكي مهام بناء الجيش ظهرت الحقائق الآتية:

"كشف وكيل وزارة الداخلية لشؤون القوة المساندة اللواء احمد الخفاجي ان لجنة تدقيق الاعداد الحقيقية لعدد المنتسبين في وزارة الداخلية كشفت 26 ألف اسم وهمي بحماية المنشآت الحيوية في العراق(واحدة فقط من مؤسسات الجهاز العسكري) بينما كشف وكيل آخر لوزارة الداخلية ان منتسبي القوى الأمنية واالجيش في العراق تجاوز عددهم 300 ألف الا ان 70 الفا منهم غير مدربين او مؤهلين.

وقال اللواء عبد الكريم خلف مدير مركز القيادة الوطني في الوزارة أن وزارته تحقق بقضايا 964 من منتسبيها يحملون رتبة ضابط من دون وجود ما يشير إلي تخرجهم من كليات أو معاهد عسكرية.

فيما ذكرت مصادر مطلعة أن هناك 4 الآف ضابط زوروا الوثائق التي منحوا على أساسها رتبهم العسكرية.

قائد الشرطة السابق في محافظة البصرة غالب الجزائري ذكر في وقت سابق انه أٌجبر علي تعيين ما بين 300 و400 ضابط من الأميين تماما".

 (نقلا عن أخبار اليمن / القدس العربي الأربعاء 04 -تموز 2007)

إن البيئة الفاسدة تخلق بالضرورة حلولها ومعادلاتها السياسيّة والأمنيّة والعقليّة  الفاسدة.

المؤامرة!

رأي المالكي القاضي بوجود مؤامرة، لا تدحضه مجريات الأحداث، بل تدعمه بقوّة.  أطراف "المؤامرة" كشفوا أوراقهم بسفور تام، وعلى عجل،  بإعلان البارزاني أنّ العراق القديم سقط و"إننا أمام واقع جديد، له معادلات جديدة"، وأنّ قواته لن تشتبك مع القوى المسلحة، التي احتلـّت أربع محافظات عراقيّة، إلاّ إذا تعرّضت الى اعتداء مباشر. وهذا يعني  أنّ احتلال الموصل وصلاح الدين يقع خارج اهتمام القيادات الكردية في علاقتها بالمجتمع العراقي. ذلك هو الطرف الأوّل والأخطر من المؤامرة، أو لنقل في غياب المسؤوليّة الوطنية المشتركة. البيان الذي تلاه أثيل النجيفي، محافظ نينوى، عقب وصوله الى أربيل، كشف الجانب الثاني للمؤامرة، والذي يتمثل في معرفة النجيفي بالتخطيط العسكري للحدث، وفي بقائه في الموصل، حتّى تأكـّده من أنّ المسلـّحين لم ولن ينفـّذوا الاتفاقيّة المبرمة معه: تسليمه السلطة الإداريّة المدنيّة وحصر نفوذهم في القيادة العسكريّة. لقد كانت مفاجأة انهيار القوّات العراقيّة مذهلة حتّى للمسلـّحين، الذين وجدوا أنّهم في حلّ تام من أيّ اتفاق سابق للنصر الباهر. وهو عين ما حدث في سوريا، وسيحدث مع القوى الكرديّة عاجلاً أم آجلاً. هفوات كثيرة ارتكبها النجيفي في بيانه، أبرزها: اختفاء شرطته المحليّة، التي هي من أبناء نينوى، ونجاحه في تقدير حجم موجودات الدولة العراقيّة في بنوك الموصل، بما يقرب من نصف مليار دولار( 442 مليون)، لكنّه (!!) لم يقم بحمايتها أو تأمين عدم وقوعها في أيدي المسلحين، رغماً عن ادعائه بأنّه حذّر السلطة (هدّدها) من خطر المسلـّحين قبل أيّام من احتلال الموصل. (وقد أكـّد مسعود البارزاني أيضا أنّه فعل ذلك غير مرة وأبلغ المالكي شخصيّاً باحتمال سقوط الموصل. وهذا يفترض، لو صحّ، أن تكون جاهزية القوات الكردية والقوات المحلية لمحافظة نينوى على تامة للتعامل مع الحدث. ولكن كيف تعاملوا معه!!!). وعلى العكس من ذلك وجّه النجيفي دعوة الى موظفي الدولة طالبهم بمواصلة أعمالهم  وعدم ترك وظائفهم،  وتعهد شخصيّاً بتأمين رواتبهم مهما طالت الأزمة! أمّا الأمر الرابع فهو توجهه الى أربيل ثمّ الى عمّان بدلاً من بغداد عاصمة بلاده ومركز حكومته، والأمر الخامس، وهو أمر تافه، سعيه الى حضور مؤتمر عمّان المعارض. أهمّ مساعدي علاوي، ميسون الدملوجي، اعتبرت أنّ وجود "داعش" تضليل إعلامي مبالغ فيه. وهذا التصريح تعبير عن موقف القائمة العراقيّة من طبيعة الصراع على الموصل، ودور هذه القائمة في حملة التحشيد الإعلامي والحزبي لمواجهة السلطة المركزيّة.

من هنا نرى أن نظرية المؤامرة المالكيّة لها قدر معلوم من الصحّة. ولكنّ هذا الأمر، لو صحّ، فإنّه يستدعي من الجيش العراقيّ، سواء افترضنا أنّه بلا عقيدة قتاليّة أو بعقيدة مشوّهة، أنّ يقوم بالتصدي لـ " المؤامرة"، في الأقّلّ بالانسحاب المنظـّم، أو حتّى المرتبك، الى مناطق أكثر أمناً، وليس الاختفاء التام، والتبخـّر.

ماذا حدث ليلة التاسع من تموز في الموصل؟

مؤامرة في المؤامرة

تقترن السياسة العراقية بمبدئين متلازمين: العنف والمؤامرة.

هذا التلازم وجدناه مطبوعاً على صفحة الحياة السياسيّة العراقيّة، منذ تكوين الدولة العراقية الحديثة. حينما شعر العسكريون العراقيّون أنّ الحاكم العسكريّ ذا الثياب المدنيّة، الذي نزع زيّ العسكر وترأس الوزارة بثياب مدنيّة هو عسكري مزوّر، ومدنيّ مغشوش، قرّر العسكريّ الحقيقي  (المسلكيّ)أخذ السلطة بيديه، وتمّ ذلك بانقلاب بكر صدقي عام 1936، الذي كان أوّل انقلاب عسكريّ عربيّ. ثمّ تلاه انقلاب مايس 1941 الذي قاده العقداء الأربعة، ردّاً على مؤامرات الحكم التي قادها نوري السعيد والوصيّ على عرش العراق عبدالإله. بإطاحة الملكيّة عام 1958 عاد الجيش سافراً الى الحكم، وإن جاء باسم الشعب. ثمّ تمّت إطاحة حكومة تموز بانقلاب دمويّ ضم تحالف الجيش والبعث والقوى القومية عربية وكردية، مسنودة بتيارات أصوليّة شيعيّة وسنّيّة.

تلاه انقلاب على البعثيين بقيادة قوميّة، ثمّ انقلاب داخليّ لصالح العسكريين انتزع القيادة المدنية من عبد الرحمن البزاز على يد رفاقه القوميين. ولم يلبث العسكريّ عبد الرحمن عارف أن أخلى الساحة لصالح أبرز مقربيه، قائد الحرس الجمهوري ومدير الاستخبارات العسكريّة في انقلاب جيّر لصالح البعث.

ولكن، لم يسقط صدام والبعث بانقلاب عسكريّ داخليّ، بل سقط بانقلاب عسكريّ دوليّ، أسقط معه  الدولة العراقيّة، وقطع تسلسل التاريخ الوطني.

لماذا قامت المؤامرة؟

لم تنجح مساعي رئيس حكومة كردستان، وجهود كتلة إياد علاوي، ونشاط مجموعة الأخوين النجيفي، على مدى السنوات المنصرمة، في تقرير مصير المالكي بطرق سياسيّة. على العكس، تمكـّن المالكي من تفكيك وحدة قائمة علاوي، ونخر كتلة النجيفي، وأطاح طارق الهاشمي وتياره، وحتّى الكتلة الشيعيّة تمكن من إضعافها بانهاك الصدريين ومشاغلة المجلس الأعلى وتحجيم زعاماته. وفي الجبهة الكرديّة نشأت اصطفافات جديدة منحت المالكي قدراً أوسع من المناورة. لكنّ ثمن هذا النجاح كان باهظاً جدّاً: إغراق البلاد في موجة عارمة من الفساد المالي والاداري والسياسي والقانوني، مقرونة بالعنف العبثيّ السافر. لقد نجا المالكي من ضغط خصومه، لكنـّه جعل البلاد بثرواتها العظيمة ساحة للعنف وغياب الخدمات ونهب الثروات وتعطيل مفاصل الحياة كافـّة. بهذا أثبت المالكي أنـّه تعلـّم الدرس جيّداً، وليس بمقدور أحد تقرير مصيره سياسيّاً بستة أشهر، كما حدث لسابقه ابراهيم الجعفري. وفي الوقت عينه وجد خصوم المالكي أنّ غريمهم نجح حقـّاً في إفشال مخططاتهم، بل زاد في الأمر أنـّه قرّر مواصلة الحكم، دستوريّاً، لدورة ثالثة، على رغم أنوفهم جميعاً. أمام هذه الحقائق وجد المنافسون أنّه آن الأوان لإسقاط المالكي، ولكن من طريق الاستعانة بالشيطان هذه المرّة، سواء أكان شيطاناً داخليّاً جاهزا للفعل، أو خارجيّاً ينتظرعلى الحدود إشارات الدعوة.

ومن جانب آخر أثبتت تجربة السنوات العصيبة المنصرمة للمالكي شخصيّاً، أنّه إذا استطاع أن يفرض وجوده حاكماً بطرق عبثيّة، وأن يطيل فترة حكمه الى ما يقرب من عقد، فإنّه لم ينجح في كسر شوكة خصومه، وأنّ حربه المفتوحة معهم قادت الى ثورة عارمة في المناطق الـمغايرة طائفيّا، لا يمكن إخمادها بالقوّة السافرة، فلتت فيها الموازين العسكريّة والسياسيّة من يده تماماً. فما الحل؟ هل سيأتي الى ولاية ثالثة وهو يقف على أرض مرتجّة، مزروعة بالألغام والجثث والمؤامرات؟ حتام؟

كان لا بدّ من الحسم. لقد أضحى الحسم متبادلاً وضروريّاً. لكنـّه حسم مكشوف المسارات. فقد بات كلّ طرف على معرفة تامة بخطط الآخر وباتجاهات حركته. وإذا كان الحسم في الموصل قد تمّ بـ "مؤامرة" فتحت فيها الحدود والحاضنات والطرقات للقوى المعارضة المسلـّحة بمختلف ألوانها، رافقتها حملة إعلاميّة ضخمة، فإنّ حسم المالكي كان معاكساً تماماً في الاتجاه، مشابهاً تماماً في الوسيلة: الانسحاب جنوباً والتمركز شماليّ بغداد، وترك القوى الكرديّة والفئات "الـسنـّيّة" المعارضة في مواجهة " داعش" ومجاميع عزة الدوري عسكريّاً واجتماعيّا، ووضع مكونات المجتمع العراقيّ من مسلمين معتدلين ومسيحيين وشبك وأيزيدية تحت رحمة التكفييريين والمتطرفين، من أجل كسب عطف الداخل والخارج بيسر تام. وفي الأحوال كافـّة، يرى المالكي أنّه سيكتفي في الوضع الراهن ، كما خطط هو وتياره، بمنصب رئيس وزراء عراق مصغـّر عمليّاً، كبير اسميّاً. من هذا نرى أنّ الجميع شرعوا يتبادلون غمزات الانفصال القاتلة: البارزاني علناً ومن دون تحفـّظ، والقادة "السنـّة" خجلاً صريحاً أو مستتراً، والمالكي انسحاباً.  يؤيّد المالكي خفيّة في خطة انسحابه بعض أبرز مكوّنات الشيعة، المجلس الأعلى، الذي هب قادته الى ارتداء ملابس الحرب فوراً، لكي يضلـّلوا قاعدتهم الشيعيّة، التي ترك بعضها في نينوى عارية في حجيم التكفيريين، وجرى تسفير بعضها الآخر الى المناطق الشيعيّة في الوسط والجنوب. إنـّه توافق سياسيّ تام وممنهج على مؤامرة "التنظيف" العرقيّ والمذهبيّ الممهد للانفصال المحتمل. لقد بني الانسحاب العسكري من الموصل حتّى سامراء على قاعدة  محددة، مؤداها أنّه حتّى لو فشل تيار "دولة القانون" في استعادة كيان العراق الموّحد في ظلّ حكومته الراهنة، سيذكـّرنا هذا التجمع السياسيّ المصطنع، في يوم أسود قادم، بأنـّه احتفظ للشيعة العرب بأكبر جزء ممكن مما كان يعرف سابقا بالعراق، "عراق ما قبل 9 تموز"، كما وصفه البارزاني.

إنّ استخدام الانسحاب العسكري سلاحاً سياسيّاً لغرض جلب الخصوم الى دائرة التوافق، ولغرض تعبئة القواعد الشعبية المنهكة والمنتهكة بطريقة فعّالة وسريعة، إنّما نابع من بنية الواقع السياسي المريض والفاسد، الذي يُجوّز حدوث ذلك، وربّما يحتـّمه أيضاً. إنّها الوسيلة ذاتها التي اعتاد القادة الكرد ممارستها عسكريّاً واقتصاديّاً لتحقيق شروط الاتحاد والانفصال، وهي عينها التي لجأ اليها المعارضون في المناطق الغربية: الضغط العسكري والتلويح بالتقسيم وسيلة وحيدة للحوار. في ظلّ غياب المسؤوليّة الوطنيّة يستخدم الجميع حقّ تمزيق الوطن، بالعنف المسلـّح، وسيلة سياسيّة مشروعة، قد تنجح في إرغام الجماعات المختلفة على القبول بتوافق ما، وقتيّ ومرحليّ. لكنـّها لن تكون سوى وسيلة أكيدة لتدمير مكونات الوطن الواحد على المدى البعيد.

لم تزل الحرب الوسيلة الوحيدة لتقرير صيغة الاتحاد والانفصال، لدى سياسيي ما بعد الغزو الأميركيّ، بالضبط كما كانت الحرب الوسيلة الوحيدة لإدارة المجتمع العراقي في ظلّ حقبة صدام.

 

استلهام فاشل

 في خطـّة المالكي يعثر المرء على استلهام واضح للنموذج السوري، ولكن في اللحظة الخاطئة، والمكان الخاطئ، والوسائل الخاطئة. فلم تكن الموصل هي الرّقـّة، ولم يكن المالكي بشار الأسد، ولم يكن الجيش العراقيّ شبيهاً بالجيش السوريّ، ولم تكن بغداد البعيدة دمشق المحاصرة، ولم تكن القامشلي أربيل. كان الأمر الوحيد الصائب هو صحة مراهنة خصوم المالكي على ضعف أهليّة وخبرات القيادات السياسيّة الشيعيّة، وسهولة استدراجها الى مزالق الخطر.

خطـّة المالكي كانت مكشوفة لدى منافسيه، البارزاني تحديداً. لذلك تمّ توتير الأجواء في بغداد سياسيّاً ومركزتها في نقطة محددة: رفض التجديد للمالكي. وتمّ فتح ثغرات، بواسطة قوات الأمن الكردي "الأسايش" والبيشمركة، لتحرك القوى التكفيريّة وبقايا النظام السابق والناقمين على إخفاقات المركز، التي وصلت الى سامراء وقامت باحتلالها، في إشارة رمزيّة تمويهيّة الى أنّ بغداد هي الهدف. لذلك عجّل المالكي بتفيذ خطته السريّة: الانسحاب. لكنـّه غبى عليه أنّ الآخرين العارفين بمخطـّطه قد قرّروا تنفيذ خطـّة تكميليّة داخل خطـّته. لذلك قام خصوم المالكي فور اصدار المالكي أوامر التحرك الى خارج القوس السنّي والتمركز جنوب صلاح الدين، مع ابقاء قوة محدودة في "تلعفر"، بتفعيل خطـّتهم الداخليّة والخارجيّة. نُفذّت الخطـّة من الخارج بفتح ممرات للمسلـّحين (أكـّد البارزاني  أمام حكومة كردستان أنّ مسلحي داعش جاءوا لمهاجمة سجن بادوش وتحرير السجناء، وليس لاحتلال الموصل) ، ومن الداخل باستسلام الشرطة المحليّة أو التحاقها بالمسلـّحين، وبإيصال قرار المالكي بالانسحاب، ولكن من طريق تطويره وتلغيمه من قبل قواهم الموجودة داخل الوحدات العسكريّة وخارجها، بالدعوة الى هروب جماعيّ، من دون سلاح كشرط أساسيّ وحيد للنجاة، واعتبار هذه الدعوة تنفيذاً حرفيّاً لقرار القائد الأعلى للقوات المسلحة القاضيّة بالانسحاب الفوريّ. كانت ملابس الهاربين المدنيّة الموحّدة مهيئة في نقاط التفتيش!

لقد أراد المالكي أن يتآمر على خصومه، لكنـّهم نجحوا في جعلها مؤامرة داخل المؤامرة.

إن أطراف المؤامرة، جميعهم، مسؤولون أمام التاريخ عن جريمة التآمر على الشعب، ومسؤولون جنائيّاً عن استخدام أبناء الشعب وموارده ووجوده وسيلة لتحقيق السيطرة السياسيّة، وحلّ النزاعات القومية والطائفيّة.

بيد أنّ مشكلة العراق المزمنة لا تكمن في معرفة أسرار سقوط بغداد أو الموصل، بل تكمن في أنّ تاريخ الفساد السلطوي والعنف التكراريّ يعيد نفسه. سبب ذلك يعود الى أن العراقيين يحصرون الفشل السياسيّ بالأشخاص وليس بالمؤسسة والنظام السياسيّ، وهو مظهر عال من مظاهر التدنّي في الوعي السياسيّ الشعبيّ. المالكي هو المتّهم وليس الكتلة التي حكم باسمها، علاوي وليس قائمته التى أوصلته الى الحكم، البارزاني وليس مؤسسة الوصاية العائليّة، صدّام وليس نظامه السياسيّ، عبد الكريم قاسم وليس منظومة السلطة، نوري السعيد والوصيّ وليس النظام الملكيّ. وها هم يجلسون الآن لغرض إعادة ترتيب الأسماء، متناسين شيئاً جوهريّاً اسمه "العراق الجديد"، الذي شيّده الأميركان على طريقتهم الخاصّة جدّاً.

لا أحد يستطيع الآن الخروج على قاعدة إعادة التأسيس، التي رسمها الاحتلال: القادة الكرد يرفضون رفضاً تامّاً الجلوس على مقاعد مجلس النواب العراقي كأحزاب معارضة، ويصرّون على الاستئثار بوزارات ومواقع رئاسيّة محددة لم ينص عليها الدستور، واستحصال ثروات لا دستورية. يفعلون ذلك باعتبارهم جزءا من السلطة الحاكمة عراقيّا. لكنّهم يشغلون دور المعارضة "المؤذية" في قرارات ابتزازهم للمركز، ويتحولون الى "كونفدراليّة" عند إدارة سلطاتهم القوميّة. وسياسيو الوسط "السنيّ" حائرون، يندبون مركزيّتهم الضائعة، يبحث بعضهم عن مركز ما ولو كان رمزيّاً، أو ملحقاً بكيان ما له مركز. أمّا القوى السياسيّة الطائفيّة الشيعيّة فهي تقتدي بشعار المالكي: "أخذناها ولن نعطيها"، حتّى لو أنّ ما أخذ لن يكون في النهاية سوى عراق اسميّ، مصغّر، ضمن كونفدراليّات ثلاث.

إنّ الجميع لا يزالون يتخندقون بأنانيّة عصبويّة في متاريس إعادة التأسيس، التي وضع أسسها بول بريمر.

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا