شعرالتزجيج المزهر بالشر عند بودلير
جمال محمد تقي
ولد شارل بودلير شاعر العتمة المزهرة والالم الذي
لا ينشد المسكنات ، والسأم الابدي العامر بالهروب
الى ما بعد النهايات الارضية ، والباحث عن خلاصه
في موت الواقع وصوره المدورة ، وفي التصوف الداخلي
للخلاص من قرفه ، ولد في 9 نيسان 1821 ومات في 31
آب 1867 ، 46 عاما كانت حافلة بجميع الفصول السوية
والعادية والتي لم يكن يرى فيها سواء ، كانت حياته
الاولى متقدة ويافعة ،كيف لا وهو الفتي بعنفوان
شراهته وتفتق قريحته الابداعية المبكرة ، فاز
بجائزة الشعر اللاتيني وهو لم يبلغ بعد السادسة
عشر، كانت حياته في هذه المرحلة عابثة متمردة
ولاهثة ،
لم يكن فقيرا ولم يكن مقيدا لكنه كان يطلب اللذة
حيث وجدت وحتى لو كانت معجونة بالسم ، حتى لو كانت
في الموت نفسه ، ربما كانت اصابته بالزهري وفي وقت
مبكر قد اخمدت لديه لمعان الاقبال على الحياة
وجعلت من تميزه الشعوري يرتد عكسيا بحيث يعيد
اختياره ، فيختار التمعن بالموت والاقبال عليه بدل
التمعن والاقبال على الحياة !
لقد اطلق في قصائده على الفترة التي عاشها في
مدينة ليون وريفها حيث كان طالب داخلي في كليتها
عنوانا معبرا عن الغبطة والتفاؤل" فردوس الغراميات
الاخضر" حيث قضى ثلاث سنوات فيها وهو ابن ال12 حتى
سن 15 !
كانت الاضطرابات والالام تعاوده كالنوبات وكانت
متباعدة في باديء الامر ثم صارت لا تنقطع
وهكذا تواصلت حتى وفاته ، وهو بالعشرينات من عمره
تعرف على مرضه المزمن وبدأت انعكاسات حالته التي
لا دواء لها او لتفاعلاتها عنده فقد تشبع الجسد
وسكب مافيه على الروح !
كان شعره صادقا ونابعا من روحه المشروخة وكانت هذه
الروح هي جناح يخفق للسكون الابدي الذي يتمناه ان
لا يكون موتا نهائيا ، اي كان يريده سبرا للاغوار
حيث الوجود المطلق ، لقد جعلته روحه تلك يعتكف في
فضاء اختلالاته وماتعكسه من زوايا غير مرئية عن
عالمنا المرئي ، ولد كمثل ابناء ادم وحواء وعاش
كما يعيشوا لكنه لم يجاريهم فيما يحلمون ، 46 عاما
كان فيها بودلير مختصرا لنفسه ومكثفا لتفاعلات
ربيعها وصيفها وخريفها وشتائها ، مالا بل كارها
تكرارها واجترارها باحثا عن فصول اخرى بعد الفصول
!
يقول عنه جان ديري في مقدمة "ازهار الشر" :
" يجب ان نمعن النظر في هذا الشاعر الذي يثير
الاعجاب ، هذا الانسان البائس ، العاجز عن ان يقهر
شقاءه فهو يظل رازحا تحته ، حتى لو جعل منه النبل
الوحيد ، ولو رأى في نشيج البشر المتأجج ارفع شاهد
على الكرامة والجدارة ، وحتى لو كتب في قصيدة "
اسهم نارية " : ( لا اعرف البتة أيكون دماغي
مسحورا ؟ ، لا اعرف ضربا من الجمال ليس فيه
شقاء !) .
انه يلف جميع المسائل بالالم ، ان فيه حتما شيئا
ما يحول بينه والانفتاح امام العالم والحياة ، شيء
يسجنه في نفسه ويغلقه على ذاته ، على اعمق مافيه
خفاءا ، حتى يخيل الى المرء انه ما كاد يفتح عينيه
حتى يرى نفسه غير قادر على تحمل تحول القوى ،
والاشياء المخلوقة المدهشة ، ولا تكاثرها
اللامتناهي ، ولا ايقاعها الضخم ، انه يشعر
بالغثيان من الطبيعة ، ومن الطبيعي ! انه يقول : "
المرأة طبيعية ، اي كريهة " أو : " اعيدوا النظر
في كل ما هو طبيعي ، في كل الرغبات التي تصدر عن
انسان طبيعي ، وحللوها ، فلن تجدوا فيها شيئا غير
ما هو بشع منفر . " . . لدى بودلير لا مناص
من المرور دائما بما هو كامد وميت ، والذي هو نحن
، والذي هو الارضي ، الدنيوي ، عند اذ فان فنه وهو
" يشق الابواب " قليلا ياتي ليحيي " المرايا
الكامدة والشعل المنطفئة " وتلتمع الذكرى مثل بيت
قربان ، وعلى الرغم من الدود الذي يلتهم الجثة ،
فانها تحتفظ بالشكل وبالجوهر الالهي . . .
لقد سلك بودلير دربا تخالف درب فيكنور هوغو ، فهو
لا ينطلق من موقف قبول العالم ، ولكن من موقف رفض
العالم ومن انعكاسه ، انه لا يتهالك على الاشياء ،
بل ينكمش على نفسه ، انه وخوفا من ان يضل في
الظلمات ، انه لا يقرر الا يذهب ، في عتمة الما
وراء تلك الى ابعد مما يستطيع الانسان ان يتغلغل ،
وان يطرد هذه العتمة بنور لم يستطع ان يقهرها ،
ولذا فهو ينكرها : " ايتها الظلمات ، اعلمي هذا :
لا وجود لليل . " .
بودلير لم يوصي بكتابة بيت شعر من اشعاره على شاهد
قبره كما فعل المعري في توصيته بكتابة بيته
الشهير على شاهد قبره " هذا ماجناه ابي علي وانا
لم اجني به على احد " لانه كان يريد ان يصدق نفسه
بان ذكراه ليست مجدية في ارض الموت هذه ، انه اراد
هزيمة الموت بمناداته وتحديه ، حتى انه حاول
الانتحار او جربه لثلاثة مرات هروبا من وساوس
الموت المفاجيء التي فجرتها فيه نوبات الالم
المبرح وعذاب حرمانه مما وجده مغريا على الارض
فراح وكانه مكرها يعشم نفسه باختراق الموت والتطهر
من الحياة بالتسامي عليها نحو عالم اخر ، وهو يجرب
الانتحار وكانه كان يريد ان يتدرب على الموت
لكن احتضاره الطويل في نهاية المطاف قد فضح مقاومة
روحه لقباض الارواح الذي انتزعها منه دون رخصة ،
ربما اكتشف لحظتها ان الموت هنا مختلفا عن الذي
سعى اليه وهو القائل : اذا كان الموت نهاية لكل
العاديين فهو بداية لكل مسكون به طليق العقل
والشعور فهو سيكون موعدا لانهائيا مع المطلق الحي
. !
بودلير هذا الناقد والمحرر والشاعر والمترجم
المدهش والهائم بالظلام والسماء القاحلة قد نجح في
جعل الهامه الشعري مضاد حيوي يعاكس به ظل الجمال
في الارض القبيحة وهو لا يداويه بل يهرب به من عطر
ازهاره الشريرة المؤلمة التي تزحف على روحه !
مختارات من "ازهار الشر" ديوان بودلير المعرب
بواسطة الشاعر والمترجم المبدع خليل خوري والذي
ليس له شاهد خير من بيت من شعره الشفاف " عيناك
دنيا بلا حدود ، والعمر زورق يطفو ويغرق على بحار
من الوعود ! " سنختار هنا بعضا من القصائد
التي تعبر عن تصاعد حمى طلب الموت عند شاعرنا
بودلير :
1 ـ دون جوان في الجحيم او دون جوان في
الحركات
نشرت عام 1846
" عندما انحدر دون جوان نحو النهر السفلي
وبعد ان منح قارون أوبوله ،
ـ مثيولوجيا اغريقية ، في سفر الجحيم ـ
أمسك متسول متجهم ، ذو نظرة متعجرفة
مثل آنتستين ، كل مجداف بذراع منتقمة قوية .
كانت نسوة يتلوين تحت الفضاء المدلهم
كاشفات عن نهودهن المتدلية ، واثوابهن مفتوحة ،
وكن يصعدن إثره عويلا متماديا ،
مثل قطيع كبير من الاضاحي المقربة ،
كان سغاناريل ـ وهو خادم دون جوان ـ يطالبه باجوره
ضاحكا ،
بينما راح دون لويس ـ والد دون جوان ـ
بانملة راعشة
يري جميع الموتى المتسكعين على الضفاف
الولد الوقح الذي لطخ جبينه الابيض .
وبدت إلفير العفيفة والضامرة ، وهي ترعش في ثوب
الحداد ،
قرب الزوج الغادر الذي كان عشيقها بدءا ،
وكأنها تستجديه ابتسامة اخيرة
تلتمع فيها عذوبة أول عهد عاهدها عليه .
كان رجل ضخم من حجر ، منتصبا باستقامة في درعه
يقف لدى الحاجز يوقف المد الاسود
بيد ان البطل الهاديء ، المنحني على سيفه
كان يرمق اثر القارب دون ان يتنازل لرؤية شيء .
2 ـ خمرة القاتل
نشرت عام 1848
زوجتي ماتت أنا (الان) حر !
استطيع اذن ان اشرب حتى ادوخ
يوم كنت اعود دون فلس ،
كان صراخها يمزق عصبي .
سعادة ملك انا سعيد ،
الهواء نقي والسماء مدهشة
مر بنا صيف مماثل
حين غدوت مولها بها !
الظمأ الرهيب الذي يمزقني
يحتاج من الخمر حتى ينطفيء ،
ما يمكن ان يتسع له قبرها ،
وليس ذلك بقليل :
لقد القيت بها في قعر بئر
والقيت عليها فوق ذلك
جميع بلاطات حافتها
. . .
. . .
هأنذا طليق ووحيد
سأثمل الليلة حتى الموت ؛
سأتمدد آنئذ على الارض
دون خوف او ندم
وسأنام مثل الكلب !
يمكن للعربة الثقيلة العجلات
المحملة حجارة ووحولا ،
وللمقطورة الغاضبة
ان تسحق رأسي الائيم
او ان تبترني من الوسط
انني لا ابالي بذلك
وبالشيطان ، وبالمائدة المقدسة !
3 ـ سارة
كتبت هذه القصيدة 1841 وتعتبر من اقدم قصائد
المجموعة
ذات ليلة وانا الى جانب يهودية مقيتة ،
كما تتمدد جثة الى جانب جثة ،
رحت افكر قرب هذا الجسد المبيع
بالجمال الحزين الذي تحرم رغبتي نفسها منه ،
كنت اتخيل روعتها الفطرية ،
نظرتها المتسلحة بالحيوية والفتنة ،
شعرها الذي يشكل لها قبعة عطرة ،
والذي يبعث يبعث تذكره شهوة الحب في نفسي ،
لكنت اذن قبلت جسدك النبيل بحرارة ،
ومن قدميك النضرتين حتى خصلاتك السود
نثرت كنز المداعبات العميقة ،
لو انك ، يامليكة القاسيات ،
استطعت ، ذات ليلة ، ان تظللي
بهاء حدقتيك الباردتين بدمعة صادقة فقط .
4 ـ ازهار الشر
نشرت عام 1855 وهي مجموعة متكونة من 18 قصيدة اول
من نشرها مجلة "العالمين"
نختار هنا القصيدة التي تحمل نفس عنوان المجموعة :
يقال : يجب اغراق الاشياء الحقيرة
في بئر النسيان وفي الضريح المسور
وان الشر المنبعث من الكتابة
يفسد اخلاق الذرية
لكن العلم ما كان قط أما للرذيلة
والفضيلة ليست بنت الجهل .
5 ـ واخيرا الميت
السعيد
في ارض خصبة غاصة بالحلزون
اريد ان احفر بنفسي حفرة عميقة
استطيع ان انشر فيها بهوادة عظامي الهرمة ،
وان ارقد في النسيان مثل كوسج في الماء .
اكره الوصايا وامقت القبور ؛
واحب الي ان ادعو الغربان
لتستنزف جميع اطراف هيكلي الدنس ،
من ان استجدي ، حيا ، دمعة من الناس .
ايتها الديدان : يا رفيقات داكنات لا تسمع ولا ترى
هاك ميتا حرا وسعيدا قادما اليك ،
يا حكيمات منغمسات في متع العيش ، يابنات النتن ،
هيا جوسي عبر خربتي دون ندم
واخبريني ان كانت ماتزال هناك بعض عمليات التعذيب
لما تمارس على هذا الجسد الهرم ، الخالي من الروح
، الميت بين الموتى ؟
بمناسبة مرور الذكرى السنوية ال
142
لرحيل بودلير نعيد ذكراه بهذه المساهمة ونستعيد
معها الالام وازهارها التي زججها لنا لنراها في
اشعاره كما نراها في يوميات ازمنتنا المعاصرة
المصابة هي الاخرى ليس بازهار الزهري فقط وانما
بسيلانات لا تنقطع من العذاب الحداثي
المشيطن والمسرطن!